المزيد
 

-

صغارنا بين ميلاد ساحر وموت بحَّار !

صغارنا بين ميلاد ساحر وموت بحَّار !

من خزانته المظلمة تحت الدرج في بيت خالته الظالمة وزوجها المتجبر(عائلة درسلي) وبؤسه بين البشر الطبيعين الى "شارع 9 وثلاثة ارباع" حيث يختفي هناك في لحظة ما في العالم السفلي...أنجبت "ج .ك رولينج"  "هاري بوتر" التي أصرّت منذ اللحظة الأولى لميلاده في  الجزء الأول من رواياتها أنه سيكون أشهر طفل في العالم...وقد كان.

فهل كان العالم متعطشا الى عالم الساحر هاري بوتر، وعالم من السحر الأبيض والأحمر والأخضر والأسود، يصحح به مسار الأقدار للناس! فأستمرأت برواياتها السبع طوفانًا أسودًا من جنون الشعوذة والخزعبلات، أغرق الطفولة بعُقد الغرب وإنفصامه في فهم ذاته وعلاقته مع الكون، فانسحر بها  الناس وغدت أشهر كاتبة على وجه الارض قاطبة وأول مليارديرة في العالم من صنعة الكتابة في أدب الطفل، فبيع ما يعادل ثلاثمائة مليون نسخة من ثقافة الخزعبلات وعوالم السحر والشعوذة فغاصت بعقول أطفالنا حتى النخاع والى أسفل سافلين مع مردة الجن والشياطين وأعوانهم من القطط والبوم والأفاعي والتنانين، حيث تدور قصتها مئات الأميال تحت لندن، ليكتشف أطفال العالم أنَّ تحت الأرض عالم آخر يرحل اليه البطل الهمام " هاري بوتر" ليتعلم في مدرسته السحرية (هوجوورتس ) كيف يحارب السحر الأسود بالسحر الأبيض، وكيف يصنع الأقدار بعصى سحرية وتعويذة تلقى العدو في غياهيب الجب، أو كيف يطالع كتبا وصحفا تزيده وعيا وثقافة بسير الحياة  من خلال عناوين سحرية  تشي بخيال تجاوز حدود العافية  " كيف تسحر أصدقائك "، " اللعنة " و " اللعنة المضادة " وما شاكلها من إبهام في علاقة الإنسان مع ما حوله من أقدار وأحداث، ومع أخيه الإنسان.   

أليس لكل حكاية على وجه هذه الأرض فلسفة لمعنى؟ أليس لكل قلم كتب فكرة، روحا خلفها تؤمن بمضامينها؟ أليس لكل ترهلا وبدانة في رؤية تصلبا عقليا يغلق صمامات الإدراك لمفاهيم الوجود فيقع صاحبها في جلطة ثقافية قاتلة؟!

يخلُقُ الإنسان حقيقة ثم يتخذها آلها...ترزقه...تحميه...ثم تُغلق عليه نوافذ الفكر فيعبده، ويرتجي منها خلودًا وتتخذ الشمسُ والقمرُ والنجوم المسخرات وموج البحر من أنفسها حقيقة على وجود الخالق ونَظْمه الكون على أحسن تقدير فتعتدل في جلستها تسبيحًا عند كل غروب أو شروق أو طلوع أو إنطفاء أو مد أوجزر ويعبث الإنسان! وبين حقائق الوجود الثابتة وحقائق الإنسان العابثة تقتنص الأقلام الحكايات تسفك بها عقل طفل أو تبني له لبناته، فترحل مجتمعات بأكملها مع أدراك الطفولة لرشدها الى عليين أو تسقط أخرى في السبعين خريف.

في سبعين خريفا سقط هاري بوتر، تحت الأرض مئات الأميال ليخلق مجدًا دونيا لا يرقى الى غيث في غيمة أو رحمة من السماء تُرتجى في لحظة الإنكسار، فالتعاويذ دائما جاهزة لحل كل اشكالات الحياة، ولعل هذا أهم مفهوم يخرج به جيل هاري بوتر من عالم هاري بوتر، فلاعقل تستخدمه في لحظة الحاجة ولا حيلة ولا ذكاء ولا رب تدعوه في لحظة اليأس وذهاب الرجاء، المارد قادم والمارد جاهز والسحر وتعاويذه دواء كل علة.

 هكذا خلقت" ك.ج رولينج" دنيا السحرة الأفذاذ وجعلت منهم دنيا الخاصة، الذين تفوقوا على البشر الطبيعين ما أسمتهم بالعامة...العامة السذج الذين تتحرك أقدارهم بحسب رؤى عالم سفلي  فكانت وزارة السحرة ومدارس السحرة وأسواق السحرة  وملاعب السحرة  حتى رياضة الكوديتش ما قابل كرة القدم عند العامة، ولم تنس أن تصنع بنكًا خاصًا بالسحرة وعملة وذهبا وثروة أيضًا، حتى خلقت مستشفى للإصابات السحرية. وانتصرت للعالم السفلي وقبائل الجن والشياطين خاصتها ضد العامة فكانت أوصافها لكل من يخالف رغبتها الجامحة في ذاك أوصافا بشعة مقيته كوصفها لطفل صغير بأنه "ولد رفيع وجهه مثل الفأر" فإن دل تحقير الناس العاديين في مقابل عوالم غيب وضعتها كلها في سلة واحدة اسمها السحر والمشعوذين، فإن دل تحقير الناس العاديين على شيء بهذا الإسلوب فإنما يدل على خواء أخلاقي روحي في دنيا الغرب اللاهث بأنفاس ضائعة حول معرفة حقائق الأشياء وجوهرها...وتعثره في التصالح مع نفسه ومع نواميس هذا الكون .

هكذا يسقط جسر في لندن ويموت فيه الناس بأقدار عليا تتبع مفاهيم للخلق والموت وطبيعة الإبتلاء فتقرر المؤلفة أنَّ ذاك كان بسبب "فولدمورت" سيد السحر الأسود في حربه المعلنة هو وأتباعه الأشرار آكلي الموت وجماجمهم الخضراء رمزهم على أتباع السيد  "دمبلدور" أستاذ "هاري بوتر" صاحب النّظارات الهلالية ورئيس مدرسة (هوجوورتس) مدينة السحر النبيل...يموت الناس فيجتمع وزير السحر مع رئيس وزراء لندن رغمًا عن أنف الأخير  خارجًا  دائمًا من المدفأة وقت الشدائد ليعالج الأقدار .

ليس من الخطأ ان يكون للكاتب خيال خصب بل لعل هذا يحسب لكثير منهم ابداعًا...لكن عندما يكون الخيال محاولة لخلق حياة غيبية تستجيب للأحداث بشكل غرائبي تخيلي في إطار مرجعي متوتر تعاني منه الثقافة الغربية في هذه اللحظة التاريخية من عمرها في البحث عن مكانة الإنسان الوجودية  وهدف الوجود أصلا... وعندما يكون الخيال محاولة لإشباع الروح العطشى، للإجابة على أسئلة الإنسان المصيرية أو لإيجاد حالة توافق ما مع مفاهيم القضاء والقدر، وتلبية حاجات الإنسان في فهم عالم الشهود وعالم الغيب فيتحول هذا الخيال الى حالة دجل مطلقة على الذات، وتغييب كامل للحكمة والعقل، وتوزيع لحالة الضياع والشتات الروحي على أصقاع العالم، من خلال روايات وقصص تزرع في قلوب الناشئة مدلولاتها المريضة دون أن يلتفت الناس الى خطورتها، فيتحرك مع هذا الخيال كمٌ هائل من التوتر كالموج الهدار ليلامس العقل الباطن لكل طفل وناشئة في عالمنا نحن...لا شك أن خيالًا كهذا قد خرج من عوالم الصحة النفسية والعافية...ولا شك أنَّ خيالاً كهذا قد أصيب أصابة حادة في عقله.

ولا بد في حالة خيال كهذا أن نُحاكمه...وأن نحاربه...وأن نقاطعه...بحكم أنَّ هذا الخيال لم يكن الجواب الشافي لأسئلة الطفولة ولا لخيال الطفولة ولا لأخلاق الطفولة ولا لمستقبل الطفولة...بل هو خيال عبثي  ينزع الفطرة السوية من بين ضلوعها نزعًا... ويغرقها في السبعين خريف غرقًا. فمن منا لم يسافر في المجهول يوما ؟؟ ومن منا لم ينكش الخيال، ويزرع تربته، ويلبس أقراط الحلم ؟؟من منا لم يكن سندباد نفسه ويغرق في إبحاره وخيالاته حتى تسمعه أمه يضحك بأعلى صوته وحيدًا في غرفته أو ينزوي بكاءً مع نهاية قصته التي يخترعها فيكون دائما طرزانها أو سوبرمانها مضحيا فيها حتى الرمق الاخير، إنقاذًا لكل جميل يحبه...صديقاً، أو أخاً، أو مدرسةٍ، أو فكرة، لكننا في مخيلتنا لم نصاب بانفلونزاعبث الوجود القاتلة.

ويشهد علينا تراثًا قتلناه تجاهلا، أننا دائمًا كنا أهلا للقلم وللفكرة وللتحليق المعافى في خيال تقبله الحكمة. ويشهد علينا تراثًا سرق الآخرون كل علومه وأسماء علمائه حتى أفكاره الفلسفية أو أبطال روايته القصصية أننا فهمنا الحياة قصة جميلة، فلم يرهقنا الغيب، وأدركنا خير الملائكة وشر الشياطين وحكمة الحكم العدل في خلق الإنسان صاحب النجدين فيما بينهما طينًا بنفخة روح، في روايات خلبت اللُب وكانت زادًا ومنارة وتسلية معرفية لنا ولأطفالنا وللغرب وللشرق.

فكانت أشهر قصصه قصة حي بن يقظان للفيلسوف العربي الأندلسي ابن طفيل في القرن الثاني عشر الميلادي، قصة تجمع أطراف المعارف كلها وأطراف الحكمة، وتصل بتميزها الى مستوى عالمي لم ينافسه  عليها أحد منذ القرن الثاني عشر الى يومنا هذا بل لعلها ستبقى رمزًا للقصة المعرفية الخلاقة التي  لم ينجب مثلها لا الشرق ولا الغرب بما فيها من عمق فلسفي ديني وكنوز معرفية جمع فيها ابن طفيل علومه الطبية والفلكية والرياضية...وهندسها بإسلوب فني يتجاوز فيها المستويات الفنية العالمية اليوم في فن القص، وجعل العقل أهم أدواته في مسيرة بن يقظان وبحثه في فهم ذاته والكون من حوله...حتى كانت القصة وكان ابن طفيل الملهم الأول لمفكري الغرب وأدبائهم وفلاسفتهم، فأعتمده مفكروه من أمثال (جان جاك روسو) و(كانت) و(فولتير) وكثيرا غيرهم، هو وأفكاره وقيمه المبثوثة في قصة بن يقظان من قيم عدل ومساواة وحكمة في فلسفتهم التي قامت عليها الثورة الفرنسية.

وقد بلغ الإهتمام من قبل فلاسفة الغرب ومفكريه بقصة حي بن يقظان ما يتجاوز المائة دراسة وبحث وكتاب، واعتبر الشاعر الألماني غوته أن قصة "روبنسو كروز" لمؤلفها (دانييل ديفو) ما هي الا محاكاة وتقليد للبذرة المبثوثة في حي بن يقظان، ونالت حظا كبيرًا من الفيلسوف الألماني (لابييتنز) بالإضافة الى كونه عالمًا رياضيًا من معاصري نيوتن فقد أولى قصة حي بن يقظان اهتماما خاصا وشغلته بطبيعتها التي تجمع العلاقة بين المادة والروح وتصل عن طريق العقل الى القوة المدبرة لهذا الكون، الى معرفة الله ، فتقف بالأنسان على أسس سليمة بعد ذلك في إدراك سنن هذا الكون ونواميسه  ولا تتيه في الغيب ومفاهيم القضاء والقدر.

هكذا حظيت قصة حي بن يقظان  باهتمام عالمي إثر ترجمتها بثمانية قرون الى اللاتينية عند الغرب في القرني السابع والثامن عشر.

 في الوقت الذي ماتت في أرض العرب وبين أبناءهم، فلم تنل حظا وافرا ولم ينعشها أحد من ركام التاريخ وأغبرته، ولم تعتبر كنزا أدبيًا معرفيًا علميًا فلسفيًا تخصص لها وزارات التربية والتعليم مساقا خاصا في الصفوف المدرسية لقتلها بحثا ودراسة ودراية فتكون معلمًا يهتدي به طلابنا في أكثر من مجال، ولم يُرصد لإنتاجها فيلما سينمائيًا طفوليًا يخاطب وجدان أطفال العرب والناشئة في إطار مرجعيتهم الثقافية تثير فيهم ما أراده ابن طفيل من فهم الكون والنفس من خلال الملاحظة والمشاهدة والتجربة واستخدام العقل والحدس، لم يُرصد لها ملايين العرب لإنتاجها قصة تحكي الانسان بكل تفاصيله الا في محاولة فقيرة قامت بها مؤسسة الآء الفنية من خلال انتاجها فيلما عنوانه جزيرة النور.

جزيرة النور التي حاولت أن ترسم  معالم الحكاية في اللحظة التي وقف فيها بن يقظان امام أمه الظبية إثر موتها يتفكر في سبب صمتها وبرودة جسدها يبحث عن عضو من أعضاء جسدها عله مفقود فلا يجد، ثم يقلبها فيراها سوية من كل سوء، غير أن أمرًا ما قد أوقف دفئا كان يعتمرها ويمنحها الحياة.

 فلما اهتدى عن طريق تشريحه لها الى قلبها، أدرك سر الحياة...ثم ها هو يستمع الى أصوات الحيوانات فيتأملها ويحاول تقليدها، ويميل الى بعضها، ويكره الآخر فعرف أنَّ في النفس ميلا وذوقًا فتحب وتكره ، وكبر وكبرت محاولاته في فهم ما يدور حوله من خلال ملاحظة أن لكل حيوان دفاعاته ودفاعاته تكمن في ملبسه من فرو أو قرون أو شوك على جسدها، ولا تكمن في عصى سحرية أوتمتمات...حتى كبرأكثر وكبرت ملاحظته، فالأشياء الثقيلة تنجذب الى أسفل والخفيفة منها كالدخان والبخار تتطايرالى أعلى فكانت مدرسته هي الطبيعة الأم، الطبيعة  الحية الماثلة أمامه، علمته كيف تكون الحياة، ولم يحتج معها أن ينتظم في مدارس السحرة والمشعوذين! ولم تتوقف رحلة الكشف والمغامرة في معركة التأمل حتى وصلت النجوم وأقطاب السموات والأرض...في قصة فريدة من نوعها لا هي بالإجتماعية ولا بالتاريخية ولا بالرومانسية كما وصفت من قبل...بل من النفس واليها، عبر صفاء الفطرة وأدوات العقل لبناء علاقة حميمة مع الكون وخالقه ونشأة الإنسان عليه.

فهل غرقت قصة ابن طفيل في بحر العرب كما مات السندباد من قبل أو بعد؟! أم هل فقدنا كنزنا المعرفي واندثر خيالنا السوي في نزوعنا الإستهلاكي لعيش الحياة كما يحلو للحياة ان تنسكب فينا دون وعي منا، فنسمح بميلاد الساحر هاري بوتر ونقتل اليقظان الحي ويترع أبناؤنا من ثقافة تائهة في معرفة الحياة وعوالم الغيب فلا تهتدي طريقا.  

يبدو أننا فقدنا القدرة على إنشاء قصصًا تصل الى ما وصلت اليه قصة ابن طفيل أو إبداع ما أبدعته شهرزاد  من مغامرات شيقة في ليالها المخضبة بشوق الحكايا في الكتاب المشهور بألف ليلة وليلة...مع أننا نحن أهل القلم وأهل التحليق، وعبر الصحراء أقام الوحي ونزل بالكلم...وعبر الصحراء شدا الحادي وكان الميزان والنظم من بغداد موطن السندباد والف ليلة وليلة الى غرناطة وفيلسوفها ابن طفيل .

يحمل أدباء العرب في العصر الحديث ضعف عقولهم وقلة مواهبهم، ويسيرون في عالم قصص الأطفال التعليمية الجافة البسيطة، وتبقى بعد ذلك المكتبة العربية فقيرة ــ على إكتظاظها بالقصص ــ من شخصية أدبية  تحمل الأطفال على ملاحقة مغامراتها وتتبعها بشغف كما فعلنا في أجيال من قبل مع حكاية السندباد البحري، الذي قام المخرج الياباني "فوميو كوروكاوا" على إنتاجه مسلسلاً كرتونيًا يحكي مغامرات الشاب البغدادي الذي أراد أن يتعرف على العالم بعد ليلة أنس إسترق فيها وصديقه الفقير حسن النظر الى عجائب الدنيا في بيت الحاكم من خلال العروض التي قدمت آنذاك، هناك قرر الترحال عبر البحر ليرى العالم ويتعرف عليه، العالم الطبيعي الكبير بكل ما فيه من  شعوب وقبائل وثقافات، وواجه ما واجه من مخاطر مستندًا في تجاوزها على الحكمة حينا وعلى الحيلة حينا وعلى المعرفة العلمية حينا ثالثا، مع مافي مغامراته تلك من عجائب وخرافات  تثري المغامرة ولكنها لا تفقدها إنسانيتها، فقاتل الحاكم المستبد الذي يمنع الماء عن أهل القرية ويأخذ أطفالهم ضريبة منحهم الماء فاستدل بالحيلة على مكان الماء ثم حارب ناطور الثلج الذي يحتبس الماء عنده من خلال المعرفة العلمية، بإذابته بالنار فتفجر الماء ينابيع عذبة في القرية فحل مشكلة أهل القرية الفقراء وأعاد اليهم اولادهم دون تعاويذ سحرية...واستخدم عقله مرة ثانية في الخروج من الجزيرة النائية التي رمت به الأقدار اليها، فربط نفسه بقدم طائر العنقاء الضخم التي لم تحس به، وسافر معها الى جزيرة أخرى ثم عاود ربط نفسه بقطعة اللحم وهو في أسفل الوادي ليرتفع به النسر الى أرض الجزيرة فينقذ نفسه من الأفاعي وهكذا دواليك، يفطن دائمًا الى طريقة يحل بها ما يواجههه من إشكالات .

وإن كانت القصة لم تخلو من خيال معقول مطلوب عن عالم الشر الذي صوِّر بالسحرة والمشعوذين وعن عوالم الطير والحيوان الذين أعانوه وساعدوه في رحلته فأن المتتبع للسندباد في مغامرته، يرى كيف كان دائم الإستعانة بالله في اللحظة الحرجة مؤمنا بإنه عندما يعجز بإرداته الضعيفة بعد أن يستنفذ كل طاقته فأن هناك قوة عظمى تمنحه الأمل ويستعين بها.

ورغم ان مؤلف السندباد لم يعرف اسمه على وجه التحديد لكننا ضمن المرجعية الثقافية التي صيغت القصة في أطارها فلا شك أنه من أهل الحضارة العربية الإسلامية، ولعل ما ينطبق على كاتب قصة السندباد ينطبق على المؤَلَف التي احتواها " كتاب الف ليلة وليلة"، فقد وصل البحث الى أن كتاب الف ليلة وليلة هو تراكم معرفي تم تأليفه عبر السنون، كان التراث العربي واضحا خلاله من خلال قصص عبد الله البحري وعبد الله البري والسندباد وغيرها الكثير في الوقت الذي أحتوت قصصا يجمع المؤرخين أن التراث الفارسي والهندي كان باديا بوضوح فيها، فكانت حكايا الف ليلة وليلة تراثا انسانيا جمع ما جمع فيها من إبداع الخيال وثقافات الشعوب، فلذلك تجدها متشعبة في اتجاهات مختلفة.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه في دراسة قصص كهذه ،هل إستطاع أحد من أدباء العرب المتأخرين أن يكسر القالب ويتعدى التقليد فيقبض على بذور الأفكار المبثوثة في ألف ليلة وليلة ليعيد إنتاجها مع ما يتناسب مع متطلبات العصر، كما فعل الغربيون في محاكاة أو إعادة صياغة قصة حي بن يقظان فكانت قصة "روبنسون كروزو" وكان "ماوغلي "فتى الغابات، أو حتى كما فعلت "ك.ج.رولينج " في هاري بوتر والتي يرى الكثيريون أن جوهر فكرتها قد  أقتبسته من الف ليلة وليلة ضمن مرجعيتها الثقافية الخاصة بها.   

عبد الوهاب المسيري المفكر العربي الوحيد الذي حاول أن يخلق حالة تتعدى التقليد وتكسر الجمود، فأراد في مجموعته القصصية التي كتبها لأطفاله ابتداءً أن يصفع الجمود صفعة تجعله طريح الفراش، فأحدث تغييرًا حداثيًا ملموسًا حتى في القصص الأسطورية القديمة المحبوبة ففي قصِّه لقصة" ذات الرداء الأحمر" أو ما تعارفنا عليه نحن بـ" ليلى والذئب" بتغيير أحداثها بطريقة طريفة هي أقرب الى الدعابة من أي شيء آخر لإمتاع الطفل وجعله يخلق أحداثًا مغايرة في القصة التقليدية تناسبه هو وتناسب رؤيته للأشياء اليوم في العصر الحديث، فرفض الأمير في الأحداث التي غيرها في قصة سندريلا، رفض لسندريلا أن تقيس الحذاء على قدمها ليتزوجها وبين لها أنه معجب بثقافتها وشخصيتها ولا ضرورة للحذاء فهو واثق من أعجابه بها بعد ليلة قضياها معًا في الحديث الشيق الممتع، وأكل الذئب علقة ساخنة من ليلى وأخوتها الذين جهزوا أنفسهم له عند بيت الجدة في الوقت الذي كان الذئب يقرأ القصة التقليدية ويطبقها بحذافيرها فانتصر الأطفال عليه دون أن يسمحوا له بأكل جدتهم، فقد حاول في طريقة القص هذه أن يطوِّر في القصة التقليدية لينقلها الى عالم الطفل الحديث ويخضعها لميزانه، وفي هذا إذكاء للعقل، ومسايرة للواقع، وتنبيه لعملية التطوير، خاصة اذا عرفنا أنَّ البروفيسور المسيري رحمه الله كان قد سرد قصصه على أولاده عندما كانوا صغارا وشاركهم بعد ذلك في عملية التأليف، ونظر الى حاجاتهم هم ولم يملي عليهم أوامر تعليمية جامدة، ولعل هذه النقطة بالذات من أكثر ما يثارفي أدب الطفل، أننا نُخضع أطفالنا لمفاهمينا في حين أنَّ الطفل عالم ذكي مدرك للأحداث، علينا أن نُساهم معه في خلق القيم ونشاركه بها دون إجبار مرهق أو أسلوب مباشر، ونأخذ بيده نحوها دون أن يستشعر الفرضيات التنظيرية فيما نقوله له، نلمس ذلك جليا في الطريقة التي عالج بها ابن طفيل قصة حي بن يقظان فتركه من خلال المشاهدة والملاحظة يصل الى حقائق الأمور، ولعل خير شاهد على ما أرمي اليه هو ما حدث معي من واقع كتابتي لهذا المقال عندما شاهدني إبني الصغير أقرأ في روايات هاري بوتر فقال لي متعجبا " أنت تقرأين هاري بوتر، وتمنعينا من حضور افلامه "، قلت له: " لا، أنا لا أقصد قراءة هاري بوتر، فقط أقرأ في قصص الأطفال لأرى ما يكتبون لهم " فأجابني من ذاته بإندهاش شديد: "ولكن  هذه قصص الوحوش وليست قصص الأطفال!"، فالطفل عالم ذكي وهو جزء من دواخلنا يعي الأشياء بفطرته، كل ما يتبقى لنا هو تدعيم عالمه بتثبيت القيم بما نبثه في كتاباتنا له، وإثارة خياله لتحفيز عقله على الإنتاج وكسر الجمود والتقليد فلا يكبر قاصرًا حياته على زواية واحدة للرؤية فيتعلم الحياة تنوع، ويتعلم الحياة إبداع وابتكار.

كما وقد وقف المسيري بالأطفال على بوابة الحلم  في إبدع قصة كان قد كتبها وإسمها " جزيرة الدويشة " جزيرة يمكن لها أن تصبح أسطورة العصر لو أكمل أحد الأدباء الأفذاذ السير بها نحو القمة، بما فيها من شخوص رمزية وخيال عجيب، ومفاهيم عظيمة يمكن لها أن تُعّمق في طرحها، ويدخل اليها عالم الطفل الحديث من كمبيوتر وبلي ستيشن وأنترنت. ففي كل خميس بعد أن ينهي الأطفال واجباتهم المدرسية وبعد أن يقوموا بترتيب غرفتهم وتحت الحاح الجمل ظريف وشوقه لينهوا ما عليهم في عالم اليقظة من واجبات   وترتيب لغرفهم وخزائنهم، يذهبون الى النوم ليرحلوا في عالم الحلم الى جزيرة الدويشة، حيث يقطن هناك الدويشيّين ــ أقزام صغيرة تعيش الحياة فوضى ــ ويقدمون عروضًا من التطبيل على الطنجرة أو رفض أحدهم تناول الدواء أو الدحرجة على الأرض دون توقف، يرحل اليهم الجمل ظريف والديك حسن ونور وياسر ونديم ليعيشوا الفوضى بلا حدود، دون أوامر أو تعليمات ويلبسون تاج الجزيرة ويشربون من نهر الشوكلاته ويرتعون فيه ويطبلون ويزمرون كما يشاءون، حتى أن الجدة تأتي اليهم فيشجعونها على مشاركتهم الحلم، ويعطونها مزمارا لتلهو به كما تشاء وعندما يؤذن الديك حسن يعلن لهم أن عليهم العودة من بوابة الحلم الى أرض الواقع، يمكن لكاتب موهوب أن يعتبر بوابة الحلم هذه بوابة للزمن يتنقل من خلالها الصغار بين مفاهيم وقيم شتى.

قصة فلسفية لا يقدر عليها الا فيلسوف بفكر متميز وأديب صاحب رؤية، فبالإضافة الى ما فيها من خيال عذب تلبي حاجات الأطفال فلا شك أنَّ معاني الحرية المطلقة والحرية المسؤولة من أهم مرتكزاتها أضف الى حاجات الإنسان الفطرية أحيانا الى عيش الحياة فوضى ما، والتخفف من إختناق الأوامر والنواهي ضمن حدود تفصل بين الأمرين فلا ترتبك المعاني الطيبة في النفس، فقد خلق الكاتب تلك الحاجة ضمن الحلم ولبّاها ومثل لها بشخوص أصيلة في التراث العربي، كالديك  الذي يعلن بآذانه دائما عن بدء مرحلة جديدة بعنوان جديد ليستعد لها الناس فكان "الديك حسن"  هناك دائما يلهو مع الأطفال، ومهمته الرئيسة أن يؤذن معلنا الدخول الى عالم الحلم او الخروج منه الى عالم اليقظة، فلعله كان الخط الفاصل بين الخيط الأبيض والخيط الأسود من الفجر فتختلف معاني الليل عن النهار كما تختلف معاني الحرية عن الفوضى، كان هذا الديك دائما هناك في المفهوم الإسلامي كالإعلامي المميز الذي ينقل الحالة ويعلن عنها بصدق وشفافية. والجمل ظريف، ابن الصحراء والعربي الأصيل، الذي خلقه المسيري باسمه الظريف ليعيد ارتباط العربي بذاته وثقته بنفسه بعد أن فقدها بسبب من الصورة النمطية التي خلقها الغربي المتفوق عن العربي الصحراوي المتخلف، يعود الجمل ظريف المرح الى عالم الطفولة برمته عربيًا كان أو غربيًا  ليعيد إنسجام الطفل العربي مع نفسه ومكوناته الثقافية  ويجعل منه رمزًا محبوبًا  

 أو" الدب "هو رمزا ثقافيا للطفل الغربي .TEDDY BEARكما كان الـ

  هنا يأتي دورنا نحن في إحياء شخوص المسيري، وتناولها بجدية هي والأفكار المطروحة والزيادة عليها، فمكتبتنا العربية بأمسِ الحاجة الى شخصيات طفولية رمزية، تستوعب أشواق الطفولة وعنادها في المعرفة وإمتاعها بالخيال وزيادة جرعة الثقة بالنفس، وبالموروث الثقافي المقبول، وبالبيئة المحيطة وادواتها الفاعلة فيها...كما فعل السندباد وأصدقاءه علي بابا وعلاءالدين وياسمينه فينا وفي العالم  فترجم الى لغات شتى محتفظًا بنكهته العربية الأصيلة..

 غير أنَّ الحقيقية التي لا مفر من ذكرها أنَّ أولئك الذين أبدعوا قصصا مميزة كانوا دائما فلاسفة محنكين، عاشوا الحياة فأدركوا قيمتها فكتبوا ما لائم الطفل الذي في دواخلهم، والراشد في عقولهم، فناسب ما يقولونه كل فئات المجتمع...أما السطحيون فقد أنجبوا الساحر وهللوا له، وأماتوا البحار...فقتلونا.

إلا أننا سنبقى متعلقين بالحياة العربية الأصيلة بكل معانيها الطيبة النبيلة، تنعشنا نشيدة الطفولة المفضلة لدينا التي علمتنا الحياة مغامرة حلوة ضد الشر وانتصارا لأهل بغداد...وربما نبحر في القريب العاجل مع سندباد جديد في جزيرة الدويشة  يعيد لنا لحن ثقافتنا والنشيد...

أنا سندباد المغترب ..

أبعد أبحر أقترب ..

لا أهاب الموج أبدا حين يعلو ويضطرب ..

سندباد لا يخاف ..

سندباد ..

مهما تكثر الأخطار ويبعد عن بغداد ..

سندباد ما أقواه في كل البلاد ..

تاجر مندفع ..

بطل ..

تن تن ..

من بغداد ..

مهما تكثر الأخطار ويبعد عن بغداد ..

سندباد ما أقواه في كل البلاد ..

تاجر مندفع ..

بطل ..

تن تن ..

من بغداد ..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر هذا المقال في مجلة الدوحة
في قضية العدد " ادب الطفل "
السنة الثانية ــ العدد الخامس عشر ــ كانون الثاني
2009
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ملاحظة : نشر المقال في المجلة بعنوان "الوقوف على بوابة الحلم"
بحسب ما تفرضه إدارة المجلة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تاريخ الاضافة : 14/02/2011 -- 09:48 PM
عدد المشاهدات :
4441
الإسم بالكامل :
البريد الإلكتروني :
التعليق :
 
   
أضف تعليقك
 
 

بحث
 
تم التطوير والتصميم من قبل أعالي التقنية تصميم مواقع جرافيكس أعالي للاعلان تصميم، مجلات، أعلان، تسويق، تصميم شعارات
© جميع الحقوق محفوظة باب الورد 2010
الرئيسية إتصل بنا أضف الى المفضلة