المزيد
 

-

لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النَّهار


نحو خطاب إسلامي أصيل في عملية بناء الأسرة

" لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الَّليل سابق النَّهار وكل في فلك يسبحون "

لقد استطاعت الأيدي الغربية والمناهج العلمانية أن تطال قلب المجتمعات الإسلامية والمتمثل في الأسرة من خلال العزف على أوتار المرأة وحقوقها، واستجبنا نحن بدورنا لذلك العزف، حيث اننا لم نستطع أنْ نتناول موضوع الأسرة عموما والذي يعاني من أمراض تكاد تكون مزمنة في مجتمعاتنا الإسلامية الا من منطلق حقوق المرأة...ولم نناقش حقوق المرأة من منطلق عملها في الميدان العام لا كساعي بريد أو عامل تنظيفات بل كوزيرة أو برلمانية...وعمدنا جاهدين على تجميع الأدلة الشرعية لهذا المنصب أو ذلك في حين أنَّ قائمة الدنيا قد تقوم من مثل مؤتمر القاهرة للسكان والذي يسعى الى هدم البناء الأسري، ومظاهرات شتى قد تشير على مثل مؤتمر بكين وغير ذلك الكثير من فوران البراكين الإسلامية .

غير أن الثورة سرعان ما تهدأ دونما إعادة زرع للأرض أو حتى استنقاذ لما تبقى من ثمر لتبقى الأسرة ثابتة الجذور، متمكنة الأصول، بل لعل أحداً في العالم الإسلامي لا يذكر أن الأسرة لا المرأة مُضيَّعة الحقوق بسبب من أنانية افرادها، واندفاعهم نحو ابتلاع الحياة...مُضعفين بممارستهم العملية الإيمان الواقعي بقوله تعالى : "وجعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس" بل لقد أصبحنا أمة غرقى يختل فيها توازن الأشياء والأفكار، حيث تجدُّ الأمومة في البحث عن ذاتها الإجتماعية من خلال البروز في العالم السياسي، وتضلُّ الأبوة طريقها الأسري في الإنغماس في العالم الإقتصادي حينا أو السعي وراء الكسب السياسي حينا ً آخر .

وفي الوقت الذي يناقش فيه الغرب وعلى كافة الأصعدة الإعلامية ماهيّة الجنس للذات الإلهية بناءً على الشك في ذات العدالة الربانية، والتي يعتقدون انها تحابي جنس الذكورة على الإنوثة، لإنها اي الذات الإلهية اقرب الى جنس الرجال، تأبى النصوص القرآنية الا ان تبين وتقرران مرد الناس جميعا في عملية الخلق الى اصل واحد ثابت (النفس البشرية )والتي انشق منها طرفين متساويين، يتجلى ذلك في آية الأفتتاح في سورة النساء :" يا ايها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا ً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا ".

فاذا ما تساوى شقي النفس الواحدة الرجال والنساء في للرجوع الى ذلك الأصل في عملية الخلق، واذا ما انعقد الإيمان بعد ذلك على التكريم الإلهي لكافة الأبناء الآدميين ذكورهم وإناثهم بقوله تعالى:"ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر .." الآية، تراجعت بعد ذلك القيم الغربية المنعتقة عن الذات الإلهية لتحل محلها قيم واضحة بينة انبثقت عن الإيمان المطلق بالعدل الإلهي في عملية المساواة بين الجنسين، وتضع الحرب اوزارها في عالم النساء فلا تصبح غنائم معركة حقوق المرأة هي ذاتها خسائر الميدان الأسري، أو هي أبادة جماعية لعالم الرجولة! لأن الإيمان بالعدالة الإلهية يعني في ابسط صوره ان يؤمن كل بوجوده ولما وجد له .

فلو ان تاجراً وضع في كفة الميزان كيلو غرام من السكر، وفي الكفة الأخرى ذات المقدار من الملح فان ذلك بالبداهة يعني تساوي المادتين من ناحية القيمة، غير أنه لا يمكن لمكابر بحال من الأحوال ان يدّعي ان وضع ملعقة ملح في كأس شاي يشربها ستكون بذات المذاق فيما لو كانت سكر، كما لا يمكن له ان يدّعي ان ملعقتين متساويتين من الملح والسكر لا تشتركان في صناعة ( الخبز ) العنصر الرئيسي في غذاء الجماعة الإنسانية، ولا تمنع هذه الحالة أو تلك أفضلية أحدى المادتين على الأخرى، ولو بدرجة بسبب من الخصائص والإمكانات التي تتمتع بها وأودعت فيها دون إرادة منها أو إختيار، وكذا المرأة والرجل في تساويهما بالقيمة الإنسانية، واشتراكهما في بناء الحياة ومن ثم اختلافهما في اداء المهام .

حتى الإعجاز الرقمي في القرآن ان جاز لنا التعبير بذلك يؤكد هذه المساواة، فقد تساوى عدد ورود كلمة كلمة ذكر وأنثى فيه ست مرات في حين عملت اللغة القرآنية على حماية درجة الرجل وقوامته ــ واللتين لا تلغيان المساواة بحال من الأحوال ــ من مغالطات بعض المفسرين والمتحمسين لحقوق المرأة للحط من قدر هذه الدرجة وتحديدها بمحددات ما أنزل الله بها من سلطان، بل أكدت بقوله تعالى :" الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض، وبما انفقوا من اموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع .." الآية، وما القوامة الا شأن آخر من شؤون التكاليف والمسؤوليات ليست فخرا وعزا على النساء مواجهته بالحرب والعنف أو حتى مشاعر النقص ! كُلف بها الرجل بناء على طبيعة الإستعداد التي أودعت فيه، وكأن في قوله تعالى :" فالصالحات قانتات " ردا على موقف عدائي كان وما زال قائما من هذه القوامة، بوصف موقف النسوة الصالحات منها بالقنوت، "والقنوت هو الطاعة عن إرادة وتوجه ورغبة ومحبة، لا عن قسر وإرغام وتفلت ومفاضلة "(1).

وفي بيان الحماية التي تحملتها اللغة القرآنية لدرجة الرجل وقوامته ذلك التصدير للرجل في كل موقع، حيث تصدرت كافة الكلمات المذكرة على المؤنثة في وصف الرجل والمرأة من " الصادقين والصادقات، والسارق والسارقة "...الخ، فيما عدا سورة النور والتي تعمل على ترسيخ الدعائم الإيمانية في الأسرة وتثبيت روابطها من مثل " الزانية والزاني " ، " الطيبات للطيبين ، والخبيثات للخبيثين "، ويبدو في تصدير الكلمة المؤنثة في سورة النور تأكيد على أن متعلقات الأسرة فسادا أو صلاحا تقوم على اكتاف النساء في حين يتصدر الرجل الفاعلية على مستويات أفقية أوسع، وشرح ذلك يطول غير أن في هذه النظرة الخاطفة عبرة لكل مؤمن متدبر في كتاب الله .

وعلى هذا فقد نوع الله عز وجل في عملية خلق الأجناس وبيان وظائفها الأولية في الحياة، وعملية " التنويع والتوزيع " (2) هي التي صعب على عالم النساء إدراكها ، كما قد استعصت على الحل في المجتمعات الغربية، وفي تسمية أكبر ثالث سورة في القرآن الكريم باسم النساء بعد سورتين لهما من المكانة ما لهم، وتخصيص السورة للحديث عن هذا الموضوع الذي شاك في العقول فأبت أن تستقر فيه على حديث الله في قرآنه ما هو الا دليل مطلق على اللغو الذي ساد ويسود في قلوب النساء ابتداء والناس من بعد .

ولا أجد على كثرة ما قرأت في موضوع الأسرة بما يتعلق بحالة المنافسة بين المرأة والرجل أروع تعبيرا أو أدق توصيفا وتحليلا أو أكثر منهجية  وتعقلا أو أبلغ تقنينا للطموح الذاتي لصالح الطموح الرباني الذي تتحاكى اسبابه مع الفطرة الإنسانية السوية مما قاله  الشهيد سيد قطب رحمة الله عليه في تفسيره لسورة النساء ومنها آيات " ولا تتمنوا ما فضل الله بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن وأسألوا الله من فضله أن الله كان بكل شيء عليما " فيما يذكر أنه سبب نزول الآية لما قالت أم سلمة لرسول الله : يا رسول الله تغزو الرجال ولا نغزو، ولنا نصف الميراث؟" فأنزل الله تعالى الآية "ولا تتمنوا ما فضل الله ..." ثم أنزل لقطع شك النساء بيقين عدل الله:" إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى ..." الآية، يقول سيد قطب:" ونجد في الأقوال الأولى ظلالاً من رواسب الجاهلية في تصور ما بين الرّجال والنساء من روابط، كما نجد ردائح للتنافس بين الرجال والنساء لعلها قد أثارتها تلك الحريات والحقوق الجديدة التي علمها الإسلام للمرأة تمشيا مع نظريته الكلية في تكريم الإنسان بجنسيه، وفي إنصاف كل جنس فيه وكل طبقة وكل أحد انصافه حتى من نفسه التي بين جنبيه، ولكن الإسلام إنما كان يستهدف من هذا كله تحقيق منهجه المتكامل بكل حذافيره لا لحساب الرجال أو لحساب النساء ! ولكن لحساب الإنسان ولحساب المجتمع المسلم ولحساب الخلق والصلاح والخير على إطلاقه وعمومه وحساب العدل المطلق المتكامل الجوانب والأسباب .

إن المنهج الإسلامي يتبع الفطرة في تقسيم الوظائف وتقسيم الأنصبة بين الرجال والنساء...والفطرة ابتداءً جعلت الرجل رجلا وجعلت المرأة إمرأة...وأودعت كل منهما خصائصه المميزة لتنوط بكل منهما وظائف معينة لا لحسابه الخاص، ولا لحساب جنس منهما بذاته ولكن لحساب هذه الحياة الإنسانية التي تقوم وتنتظم وتستوفي خصائصها وتحقق غايتها ــ من الخلافة في الأرض وعبادة الله بهذه الخلافة ــ عن طريق هذا التنوع بين الجنسين والتنوع في الخصائص والوظائف، وعن طريق تنوع الخصائص والوظائف ينشأ تنوع التكاليف وتنوع الأنصبة وتنوع المراكز لحساب تلك الشركة الكبرى والمؤسسة العظمى...المسماة بالحياة .

وحين يدرس المنهج الإسلامي كله ابتداءً ثم يدرس الجانب الخاص منه بالإرتباطات بين شطري النفس الواحدة، لا يبقى لمثل ذلك الجدل القديم الذي ترويه هذه الروايات ولا كذلك للجدل الحديث الذي يملأ حياة الفارغين والفارغات في هذه الأيام، ويطغى أحياناً على الجادين والجادات بحكم الضجيج العام، فالمسألة ليست معركة على الإطلاق إنما هو تنويع وتوزيع وتكامل وعدل بعد ذلك كامل في منهج الله" (3).

وإذا كانت الذرة في تكوينها الفيزيائي كتبت لنا مبدأية التعادل لاستمرار الحياة في الأشياء، وإنَّ أية محاولة لتحريك النواة المتعادلة (بالبرتون الموجب والإلكترون السالب) أو أي محاولة أخرى لوقف الإلكترون المتحرك في مدارات حول النواة يؤدي الى اختلال في توازن الذرة نتائجه وخيمة، كما الحال في إنقطاع النهارــ معاش الناس عن الوجود ــ فإنَّ كل إنارات القرن العشرين ما يقوم منها على الكهرباء أو الليزر أو مالا يخطر على بال اليوم، لن يجدي نفعاً أو إصلاحاً لما يسدده شعاعاً واحداً من إشعة الشمس، وحتى في انقطاع الليل، فلن تعمل كل مختبرات الدنيا على بناء خلية واحدة تموت في النهار لتستبدل في السُبات العميق، وأني يكون ذلك في نهار أزلي. ولن يؤدي بنا نهاراً سرمدياً إلا الى الجنون، وما ينيمُ الناس ليلاً أبدياً إلا في القبور، ذاك هو السُبات، وهذا هو المعاش، لكل منهما دوره وخصائص ه وإنَّ أية محاولة للتلاعب في دائرتي الساكن والمتحرك التي تقوم على مبدأية التعادل سيؤدي بالإنسانية الى دمار شامل، وخراب نفسي قاسم يضعف النفوس ويُقْسم الظهور.

وما الرجل والمرأة بحالة شاذة تخرج بهما عن مبدأية التعادل هذه، فللمجتمع النسوي طبيعته الخاصة، ففي استنطاق للسيدة آسيا زوجة فرعون في قوله تعالى:"وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت ربي ابن لي عندك بيتاً في الجنة..." الآية، وطلبها (البيت) بكل ما تحويه كلمة البيت من معنى لكل متفقه في اللغة، أو متأثراً بالإعجاز النفسي الشارح لطبيعة المرأة بكلمة واحدة في هذه الآية، وهي التي اعتادت على القصور والخدم والحشم والزوج الحاكم الرائد، ما أثارت الجنة في نفسها الا بيتاً، شاهداً على هذه الطبيعة النسوية.

وما في قول زوجة عمران في قوله تعالى:" وليس الذكر كالأنثى" مع كل تزاحم الكتب والآراء التي فُسرت بها هذه الآية إلا دلالة واضحة على أنه ليس الذكر كالأنثى، دون ليًّ لأعناق النصوص لتتواكب والهوى، فالطبيعة النفسية الغائرة في أعماق كل خلية تتركب منها المرأة لا يمكن لها بحال من الأحوال أن تتشابه مع الطبيعة النفسية المتمكنة من تكوين الرجل، فحالة الإحتضان على سبيل المثال والتي تتمتع بها النساء لتتآلف مع عملية التربية ومواكبة التطور الإنساني منذ لحظة الولادة، ومراقبة الطفولة والإستجابة لها، كما تشق جداول الغدير طريقها بيسر وانسياب مع كل تعرجات الطبيعة الصلدة، لا يمكن لها بحال أن تكون وقتاً نوعيا تقضيه الأم مع طفلها بسبب من عملها الميداني، والذي تنادي به المرأة العامله وتؤيده بحجة انه ليس من المهم كمية الوقت الذي تقضيه الأم مع طفلها إنما نوعيته، وغالباً ما تترجم عملية الوقت النوعي الذي يُقضى مع الطفل الى عملية تدريسية وتعليمية أو حتى توجيهية تربوية بحتة، وهو ما يختلف تمام الإختلاف عما يُسمى بالإحتضان، ولذلك كان ذِكرُ الأم ثلاث مرات أضعاف الأب في الحديث المشهور" من أحق الناس بحسن صحابتي يا رسول الله" لدليل واضح على ثلاثة إضعاف الزمن وليس النوع الذي تقضيه الأم مع طفلها في رعاية متواصلة تكلأ منها الجبال، فاستحقت لأجل هذه المهمة العسيرة ثلاث إضعاف حسن الصحبة والتوصية بها عن الأب.  

في حين يمكننا من وصف العملية التربوية الأبوية بأنها تستند الى الوقت النوعي بما فيه من التوجيه المباشر والذي يمتلأ زخماً وحكمة، قد يستبين ذلك من نصوص آيات لقمان الحكيم في الوصية المباشرة والوحيدة للأبناء في الإطار التربوي القرآني ــ وعلى حسب اطِّلاعي ــ والموجه من طرف الأب.

واللافت للنظر في هذا المنهج الوسطي الذي لا يشيط بطرف من الأطراف لكسب معركة وهمية، ذلك التجاوب الأسري الذي ملأ كيان رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فاض على نفسه فكان عبادة من العبادة وخشوعا من الخشوع، فيما يمكن أن نصف به تلك السجدة لما ركب حفيديه الحسن والحسين على ظهره يلعبون ويمرحون بأنها أطول سجدة أداها في إمامة الناس، حتى أوجس الصحابة خيفة من تلك الإطالة وأخذتهم الظنون أبعاداً شتى ووصل بهم الأمر أن ساورتهم نفوسهم المتعبدة برفع رؤوسهم الساجدة للإطمئنان على ما يحدث، وكان كل ذلك الإنتظار من الرسول الكريم حتى يفرغ الصغيرين من لعبهما حالة عبادة، إنها في قرارة الإيمان المطمئن في قلبه حالة من التعامل الحق مع مراعاة الطفولة وفنون التربية الواصلة بنا في عملية البناء للإنسان الطفل الى عمارة الأرض.

هذا هو رسول الله الأب والجد، وذا القائد الذي لن يضاهيه أي قيادي في عالمنا الإسلامي والعالم أجمع وعلى كافة المستويات، والذين يُتوجون إنشغالهم بهموم الأمة باللاتجاوب الأسري، ناهيك عن جُهال الأمة وعامتهم الذين ارتبطت حياتهم الأُسرية بعادات وتقاليد بئيسة، وتلك القضية اللاتجاوب الأسري من قبل الآباء لن تكون يوماً بأقل خطورة عن التمرد النسوي في القرن العشرين، ولو أن حدثاً من مثل هذا حدث في المجتمعات الغربية لوجدنا المؤلفات التي لا تعد ولا تحصى تكتب في تحليل هذا الأمر تارة لصالح تلك الشخصية الأوروبية الفذة، وتارة أخرى لصالح الطفولة وقواعد التربية والأثار النفسية والآثار الناجمة عن مقاطعة الطفل أثناء لعبه...الخ، ثم لترجمنا تلك المؤلفات الى العربية وبدأنا بتدريسها كأُسس للعلوم التربويِّة والنَّفسيَّة للطفل في كلياتنا وجامعاتنا كنتيجة للإنبهار لما عند القوم، ولفُقداننا القدرة على بلورة خطاب إسلامي اجتماعي يتعايش مع هموم الواقع في طرحه وحلوله.

وهذا ما يؤكد عليه البروفيسور عبد الوهاب المسيري في جلسة حوار معه فهو يرى أنَّ الخطاب الإسلامي في العهود السابقة قد ركز على الدولة وعليه اليوم ان يتدارك الموقف ويبدأ في بلورة خطاب معاصر يتناول أمثال هذه القضايا ويطورها ويقول في هذا:" إذا أردنا بالفعل بناء جيل إسلامي حق، فلن يتم ذلك إلا من خلال الأسرة، وهي أقدر من غيرها لمثل هذه المهام دون الإبقاء على شعارات تجريدية بحتة...فما تركيز النظام الدولي الجدي على المرأة إلا لإدراكه أنَّ المراة هي الناقل الرئيسي للقيم، وخاصة في العالم الثالث...فقد استهدفت كافة المؤتمرات التي عُقدت في هذا المجال تحويل المرأة من كائن إجتماعي الى شخص أو فرد وفي هذا نهاية للأسرة. حتى في حقل العمل الإسلامي، فإنَّ الرجال أيضاً قد أصبحوا مجرد أفراد أو أشخاص بدلاً من أن يكونوا وحدات إجتماعية، وعلى حركات تحرير المرأة بدلاً من أن تسعى نحو زيادة حرية المرأة أن تعمل على تخفيض حرية الرجل، وبدل من القول بأنَّ المرأة يجب أن تخرج للعمل، نقول  أنَّ الرجل يجب أن يعود للبيت، فنحن في نهاية المطاف لا نسعى نحو الحرية المطلقة للمرأة بل نحو بناء الأسرة، والذي يحدث في عالمنا اليوم أنَّ المرأة إمِّا متوجهة نحو التحرر الكامل او التهميش المطلق من غير اتباع للمنهج النبوي ".

ويرى الدكتور المسيري إن إعادة تعريف النَّفس الخاصة بالرجل والنَّفس الخاصة بالمرأة ينتهي بنا ولا شك الى مصطلح إجتماعي للنَّفس يساهم كإنطلاقة في عملية إعادة الكينونة الإجتماعية الإسلامية فهو يقول:" إن هنالك إعادة تعريف للنَّفس من منطلق برجوازي علماني سيؤدي بضرورة الحال الى عبء حقيقي، فعملية ظهور وانبعاث المفهوم الشخصاني الذاتي للنَّفس يعمل على تراجع النَّفس الإجتماعية وقد أدى ذلك الى مشكلة حقيقة في تربية الأبناء في العالم الغربي، فاذا كنت أنا متوجهاً نحو المتعة الذاتية وتحقيق المطامح الخاصة، فليس من السهل الإهتمام بالأبناء أو الأسرة عموماً. نحن نحتاج الى مفاهيم تتجاوز ذات الفرد، فقد أدت ثقافة المتعة وبحسب الإحصائيات الغربية الى نقص في عملية الزواج والإنجاب على حد سواء، فالمرأة اليهودية في المجتمع الأمريكي في العشرينات والثلاثينات من عمرها تنجب أقل من طفل، ولا بد لنا اليوم وحتى لا ننجرف وراء العلمنة الغربية للحياة من أن نفكر في فقه إنتقالي وأن نعمل على تطوير نظرية إيجابية وليست دفاعية حول المرأة حتى لا نقع في المشكلة التي وقع فيها اليهود في مطلع هذا القرن متمثلا في السؤال التالي: هل يكون اليهودي يهودياً أم كائناً إنسانياً ؟! وأظن أنّ المشكلة بدأت تنتقل الى عالم المرأة المسلمة، هل تكون المسلمة مسلمة أم إمرأة ؟! وهذه من أكثر القضايا خطورة على المجتمع المسلم".

أننا إذا أردنا ان نفتح ملف الأسرة على مصراعيه بالفعل فإنَّ هذا بحاجة منا الى كتاب لا الى مقال، حتى الكتب قد غدت كثيرة في أمثال هذه المواضيع، بل نحن بحاجة أضف الى الخطاب الإسلامي الواضح الدلالات والأبعاد الى مراكز إجتماعية تتبناها الحركات الإسلامية، وكل يدٍ تسعى نحو البناء، على غرار تلك المراكز والجمعيات الخيرية التي تندفع لتوفير لقمة  العيش للفقراء والمساكين او تلك الأحزاب السياسية التي تنشط لإقامة الدولة، نحن بحاجة الى ذلك الدفع الإجتماعي الإسلامي ليحل محل الدفع الغربي العلماني بالوقوف على كل صغيرة وكبيرو في هذا المنهج القويم، دراستها وتحليلها ثم الإنطلاق بها الى الآفاق الرحبة لتنداح في الوعي الجمعي، وتصبح أنفاساً من أنفاس الحياة التي نستنشق، من غير القفز المفاجيء على هموم الجماهير وواقعهم المعاش، ومن غير الإنقطاع أيضاً عن مواصلة التوجيه بسبب من عوائق هذا الواقع المتعفن، تلك المراكز أو غيرها من سبل التوجيه تعمل على تقصي حقائق المدارات والأفلاك التي يدور في مدارها كل جنس بعينه، ومن ثمَّ تعمل على التأكيد على مستوى الخلل الكوني الهائل الحادث من تفلت أيٍ من مكانه بناءً على القاعدة الذهبية في قوله تعالى :" لا الشمس ينبغي لها أنْ تدرك القمر ولا الليل سابق النَّهار وكل في فلك يسبحون".

وواقعياً لا بد من إستفاضة الحديث عن عمل المرأة على سبيل المثال: أضراره وحسناته، أسبابه ونتائجه، علاقاته بالحالة الإقنصادية المعاشة وتأثيره على عملية الإنجاب، والى أي مدى يتناسب مع التركيبة الإجتماعية الإسلامية، والى أي مدى يمكن توجيه الإختيار العلمي الدراسي ليعمل على خدمة المجتمع دون الإضرار بمستوى الأسرة وما يلازم ذلك من تضحيات، وفيما لا زال الحديث مُحكم الإغلاق بالنسبة للعلاقات الزوجية وما ينتابها من حالات ورَمِّية إن لم تفتك بها، فهي بلا شك تسير بها بموت بطيء نحو قبور الإكتئاب والعاهات النَّفسيِّة، مع أن التوجيه النبوي السديد قد إمتلأ بالحديث عنها وبيان المستوى والحالة النَّفسيِّة التي يتطلَّع اليها كل جنسٍ من رفيقه الآخر لتستقيم معه الحياة، كما أرست قواعدها آيات مُحكمات بينات إلا أنها ما زالت قابعة هناك في منطقة اللاوعي في أدمغة المسلمين لتحل في منطقة الوعي تقاليد آن للزمن ان يعفي عليها، ما أدى الى تزايد في نسب الطلاق أو حتى في نسب الصمت المرضي والذي تتدحرج آثاره تلقائياً على المجتمع العام.

لقد آن الأوان لأن يأخذ النشاط الإجتماعي الإسلامي دوره للإرتقاء بالناس لا من خلال الأعراس الجماعية التي تساهم في تخفيف المهور عليهم بل أيضاً من خلال الحرب الإجتماعية على فساد الفطرة، لتبقى الأمهات الصالحات والزوجات القانتات عناويناً للحياة، ويبقى الأزواج والأولاد من بعد مواضيع العناوين، وبين العناوين والمواضيع لتبقى المناهج الغربية في قلوب المؤمنين جمل لا محل لها من الأعراب.  

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ظلال القرآن،سيد قطب، تفسير سورة النساء، ص652 الطبعة  الشرعية التاسعة، المجلد الثاني، الأجزاء (5-7)

(2) المصطلح لسيد قطب.

(3) في ظلال القرآن، سيد قطب، تفسير سورة النساء، ص643، الطبعة الشرعية التاسعة، المجلد الثاني، الأجزاء(5-7)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر هذا المقال في مجلة فلسطين المسلمة 
العددالثاني عشر ــ السنة الخامسة عشر 
كانون أول(ديسمبر)1997 ــ شعبان1418 ه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تاريخ الاضافة : 17/12/2010 -- 12:43 PM
عدد المشاهدات :
3039
الإسم بالكامل :
البريد الإلكتروني :
التعليق :
 
   
أضف تعليقك
 
 

بحث
 
تم التطوير والتصميم من قبل أعالي التقنية تصميم مواقع جرافيكس أعالي للاعلان تصميم، مجلات، أعلان، تسويق، تصميم شعارات
© جميع الحقوق محفوظة باب الورد 2010
الرئيسية إتصل بنا أضف الى المفضلة