المزيد
 

-

الحقيقة التي لم اعترف بها حتى لنفسي..


الحقيقة التي لم أعترف بها حتى لنفسي..

أنا.. وانتَ.. والوطن..

بلون الحب وتربة الأرض وما علمني أياه أبي ..وأنتْ ..

أقف اليوم أمام نافذتي، وانفاسي الحارقة في قبضة يدي، أتلوها تراتيل ضباب على شباكي، أحاول أن أرسم منها مدا لحياة بلا زمهرير وقلق.

تلك الخطوط المتوازية التي تمرّرُها أصابعي على هذا الغباش، وخفقان مريض  في صدري يراه العاجز الضرير.

 تلك الخطوط التي لم تلتقِ أبدا منذ أن ضممتَ يديّ إلى ضلوعكَ، وتاه العمر في حبك وضاع في ذاك الاغتراب، ووقفت بينكما، أشتهي أن يظلك بحنانه، أو أن تروي تربته من مائك فتنجبان جذوة نور تطفئ الشوق في أعماقي، غير أن الجليد تراكم في فؤادي جبلا صلدا شاهقا عاما إثر عام، وما التقيتما أبدا.

ووحدي بتُ في عتمة هذا القلب العنيد، أسير أعلن لعقلي هكذا علمني أبي..وأبي سيد الفؤاد، وكبرياء المثل، وفقه الحياة، فأصبر واتصبّر.

حتى اقترف هذا العام بعد أعوام طوال من الصبر طَعْنتهُ، وانهارت كل قواي، وتعلقت أوجاعي بكل قشة متكسرة على ضفاف العمر، تعلن لي طفولتي من جديد.. فسجل لي التاريخ ذنوبا من ذهب، كما سجل لي من قبل صبرا من أيوب..

بدأت الأشياء تتخلخل صورها في شبكية عيني.. وبدأ الضوء ينطفيء في آخر أنفاق قلبي.. ولم أعد أقوى على السير في ظلمة أعصابي.. وأصبحت صباحاتي الساكنة في كل ثلاث أو أربع سنوات في بلد مختلف متنوع الثقافات، متعدد الوجوه والألوان والأشكال.. أصبحت هذه الصباحات هما تزقزقه العصافير.. رغم أنف الحب الذي أحببته لكل ارض الله ووطأتها قدماي فما عرفت الكره يوما.. لأجل عينيّ أبي وما علمني إياه..

 أن أحب كل الأرض لأن الأرض لله.. وأن لا أبحث في سيري إلا عن العدل، لأن الأنسان أي إنسان  لا يمكن له أن  يحيا بالقهر..

غير أن كل يوم كان يأتي في مسار حياتي معك كنتُ أتمنى أن يأتي فيه البارحة، وارتد بخطوي إلى الوراء فأجد نفسي أخلع حقيبة المدرسة وأهرول راقصة بأقدامي إلى باب الحارة..

 

أنتْ.. والوطن..!

 

خطان متوازيان لم يمكن لهما أن يلتقيا في حياتي أبدا ولن يفعلا.. أو أن نجلس ثلاتنا على مائدة واحدة، نتناول العشاء معا،  فبقيتُ أسير بينكما انهيارا عاطفيا يتوارى عن الأنظار تلو انهيار، ربما لذلك كتبت لك "سقوط في الشمس " فإن كنتُ دوما أعيش بواحد منكما، فلا يمكن أن أعيش بفقدكما أنتما الإثنين ولو للحظة..

 

أنتْ.. زوجي وحبيبي وصديقي واخي الذي اغرقتني بكل اولئك وبحنانك المتناهي، فكنت لا ترفض لي طلبا ابدا، حتى لو كان ان تمطر السماء سُكّر.. لم يكن بالإمكان ان تكون لي وطنا ً..!!

 

ويدك الحانية التي احتضنت يدي قبل خمسة عشر عاما في اجمل ذكرى مرت بنا في مثل هذا الشهر الثلجي ..

لا زالت تفعل..!!

يدك التي كانت قبل ايام معدودات، تمسد لي يدي على الطريقة الصينية في الطائرة، لتفتح لي منافذ الهواء في رئتي او تضحك على اعصابي لتهدأ ..ودموعي  تتلوى على كتفك وترجوك ان تفتحوا نوافذ الطائرة أوأبوابها ليدخل الهواءويزول اختناق المّ بي ..

ويدك التي كانت تجرجرني قبل تسعة أعوام الى المطبخ لتخبز لي الذ كعكة في العالم، بحسب وصفك لصنيعك.. والكراكيش.. ما أسميته انا بدوري ببسكويت الفلاحين.. وتسابقني لصنع القطايف من الفه الى يائه، في أقصى دولة عشنا بها في أعماق القارة الأفريقية بعد السودان  فنخلط الخلطة ونصب العجينة ارانب وغزلان وربما حُمر وحشية في المقلاة، لنصنع نوعا آخر من القطايف الكرتوني لا يعرفه الأهل هناك في رمضان.. المهم قطايف والسلام.. شيء ما من نكهة الوطن..

ويدك التي تاهت بي في شوارع لندن من على جسرها الى ما لا نهايات الأزقة والشوارع والحدائق، حتى ظننت ُ نفسي "ساندي بل"  مع رفيقها "مايك"، ضاحكا مداعبا، " مش بدك تشوفي بريطانيا العظمى.. يالله امشي حتى يحفوا رجليك "، " يا لئيم هيك انا بدي اشوفها شو انا كاينه ريمي ما بدي خلص بدي اروح.. والله إفريقيا احلى منها .. ".

 

يدك التي كانت تعرف دوما كيف تضع قلبي في قلبك ليسكن اليه ويستكين..

 

يدك التي احبها واحبك .. لم يكونا يا حبيبي يوما وطني ..!!

 

 كفر الشعراء كفروا، وكذب الأدباء كذبوا، لما جعلوا الوطن قلب أمرأة معشوقة لرجل، او قلب رجل معشوق لأمراة..

  كفروا ورب الكعبة، وأستحلوا كذبا شنيعا، لما جعلوا الوطن بضع ابيات غرام مزتوتة في سلة الغنج، وما تلك الا سلة مهملات، لمن يعرفون ما معنى كلمة وطن، ويسكنون كونا خارج حدوده فيموتون في اللحظة الف وجع غريب على الطب وعلومه..

 

 الوطن..

 

 ما هو الا مخبز العم أبو سليمان بفنيلته البيضاء المتصببة رزقا طاهرا، وسندويشة اللبنة الدافئة من صباحية فرنه المتقد، التي تهرول الى افواهنا الإبتدائية لنلتهمها قبل العبور الى ما وراء البحار.. ونعيد خَبْزَها اوجاعا..

 

 الوطن ما هو إلا عينا سلمى الصغيرة، وهي تلاحق درزات مخيطة العم ابو وليد، كندرجي الحارة العتيقة، هل ستستطيع اعادة احشاء حذائها للمرة الأف الى بطنه، ورتق ذاك الجرح الذي في جبهته قطبة تجميلية جديدة  لتعاود ارتداءه مشاوير فقيرة الا من زقاق بطلعة حادة حيث بوابة المدرسة..

 

ذاك الوطن ما هو الا الساعة الحادية عشرة ليلا ونداء يعالج الجمع،" تعالوا نروح نشتري كنافة "

"بهالبرد وبهالليل لأ يا ماما ، لأ، اقعدوا واسكتوا "

" امانه.. امانه.. خلينا شو ناقص عليك انت ِ "، "شو انتي بتتوحمي اشي "

" على الكنافة ..!! متعوده ..دايما  "، ومعاطف ترتدي واحذية شتوية، " ولكم اجه بابا " "اهربوا اهربوا من شباك البرنده بسرعه"،ويشتغل القفز من شرفة صغيرة " ولك نطي، ولك نطي خلصينا يا شيرين  من شان الله نطي فضحتينا ".. ويلوح شعرها بالضحك.."  حرام عليكم تركتو خالتو للبهدلة هيك لحالها " ،" بدبر حالها تا نرجع بكونوا صاروا بسابع حلم  ".. و كان لنا بالمرصاد .." بابا انا ما بسمح بهيك تصرفات ابدا"، " بابا شو ؟؟ طب ما انا متجوزه" وافواه تكاد تنفجر ضحكا،" مهو المصيبة انه انت العاقلة فيهم "، وبطيبتها الماكرة " طيب عمو كُل الكنافة  حرام هلأ بتبرد  " ..

اليس هذا هو الوطن ..؟؟.. "كنافة حبيبة" واهل واقارب ومقالب وبهادل.. ولا شيء يعلو على هكذا وطن.. لا شيء يا أبي يعلو في قلبي على قلب الأردن.. على عمّان.. حتى لو أحببت كل أرض الله.. لا شيء يا ابي.. لا شيء ..!!

 

الوطن هذا الضجيج.. تفتقده ايضا ساره، التي ما ان فتحت مدونتها، لأقرأ فيها ثم اعاود الكرة في كل مرة لأرى ما يخطه قلبها وعقلها هناك، لم أقرأ الا كلمة واحدة.. فلسطين.. فلسطين.. فلسطين كأن الله لم يخلق في هذا الكون فكرة واحدة للكتابة عنها الا فلسطين، أي وجع هذا الذي تحملينه يا ابنتي أنتِ وأربعة ملايين فلسطيني في الشتات، ونورا أبنة السابعة عشر من عمرها التي قالت لها امها البريطانية  الطيبة في اصقاع الأرض في جنوب أفريقيا، " بعدك صغيرة على الزواج والحياة بغزة بتختلف عن هون كتير ".

" ولو "، " هناك في حرب  "، "ولو "،" في صواريخ وفي موت كتير "، "ولو ..ولو "،"ولو زعلت من ابن عمك او من مرة عمك، انا مارح اكون جنبك وين بدك تروحي ولمين بدك تشكي "  "بروح على البحر بتمشى هناك "، "لازم تكوني واقعية انت بتحبي الحياة وبغزة ما في اكتر من الدمار "، " ولو.. ولو.. ولو.. " نورا التي لم تزر الوطن الا مرة واحدة في العمر لم يبرح خيالها ابدا ورغم انف السبعة عشر عاما التي قضتهم في غربة حقيقية من كل وجه خارج اسوار الوطن وثقافته، الا من اب منهك في اعداد وطن غزي صغير  في منزله، بقدر ما كانت تسمح الظروف.. ذهبت اليه لتنجب أطفالها فيه، ثم عادت لتقنع أختها مها " يا هبله وافقي "، " بخاف اموت " "ليش أنت هلأ مو ميته، بسمحلك بابا توقفي عشر دقايق في الحديقة، بس عشرة مش اكتر رح يصير يصيح، ليش فاتحين الباب، بتعرفوا يا بابا أنه بهالبلد بغتصبوا البنات كل تمنية وعشرين ثانية، خلينا نقضي هالعمر على خير، بدي أضلني انا احكي جننتوني "، " ولك يا هبلة هون في ناس.. في عالم.. في حركه.. أذا حضرتي العشا، وفجاة بالاخر أكتشفت انه ما عندك خبز بدقي على ام العبد، بتطلبي رغيفين خبز بتعطيك اربعه مش تنين ..!! مش زي لما بتحضري العشا ولما بتكتشفي انه ما في خبز، بقوم بابا يشتري من الهايبر ماركت بالسيارة لأنه ما في حدا ادقي عليه، وبعدين بتّصل فجاة يابابا اتصلوا بعمو سعد على البيت خلويه ما برد قولوله يلحقني بشارع المتشردين عملت حادث، وأنا واقف لحالي مع الزلمه، والمنطقة خطره كتير لحتى تيجي الشرطة وبالاخر بتبرد الجبنة والشاي والبيض، وبتنامي على خياره أيه والله بتفرق.. صار العشا حبل من مسد "، وافقت مها على العريس الغزاوي، ولم تكن تعلم انها تحتاج الان لأنعقاد مجلس الأمن، وجامعة الدول العربية، ووزراء الخارجية العرب، ورحمة ابو الغيط، واتفاق حماس وفتح، لفتح المعبر وأتمام زفافها هناك " شو هالورطة  من وين بدي اتجوز انا قال اربعة رغفة خبز من عند ام العبد قال بدل تنين، لا والله ياست نورا أنام بدون عشا وبدون خيار كمان وبدون عريس أحسن".

  وإيمان صديقتي الحبيبة، أيام كنتُ عروسا  في السودان، والتي قالت لي يوما بعكس المطلوب تماما، عندما كانت تنام عندي ايام سفرك وسهرنا وحديثنا شوقا للوطن، " مين الك أني انا بشعر بالإنتماء لفلسطين ولا حتى بتهمني"، " انت مجنونه اشي ..ضاربه الفيوزات عندك"، " انا بحكي الصدق أكزب يعني أقولك انه بتهمني فلسطين، بحس فيها، لأ ما رح اكزب ما بتعنيلي ولا شي ولا شي ولا شي " وجع رفضته فصفعتني دهشة، ربما لأنها لم تولد هناك بالضجيج ..بالزغاريد .. بالطوشات ..وبصخب الأهل والجيران، أوجاع مغتربين لا تنتهي تناقضاتها وتشابكاتها.. حتى تمنيت أن يرسلني الله نبيا فلكان اول حديث نطقت به من هول ما سمعت  من إغتراب روحي وصل حد التشوه النفسي في مشوار حياتي من كل من ولد خارج أسوار مستشفيات الوطن..

" حرم الله النار على وجه المغترب وعلى وجه الفلسطيني  خصوصا حتى لو كان بوذيا " وأستغفر الله العظيم ..

على الأقل عشت انا عشرين عاما في وطني يا أبنتي قبل الرحيل.. تقضين انتِ  والملايين من الفلسطينين الحياة على غيمات من سفر.. وتولدون وتتوالدون على موجات البحر..

وتغرقون من ثم في قيعان من بعثرة الحنين والألم وشتاتهما في اعماق الروح  طوال العمر..

فالوطن لا يكون أباً ابدا حتى لو كان مدير أكبر شركة نفط في الشرق الأوسط، وغناء فاحش أو متوسط ..أو استاذ لغة عربية، وفقر مدقع  أو معقول، يحاول بعمله ما استطاع ان يدفع عن هذه الأمة  شر اغتصاب الحرف او الثروة.. ولا يكون عائلة مستقرة  تعتاد هدوء الوحدة وصمت الحياة وبعض السكاكر..!!

 

الوطن ضجيج.. ضجيج  يبتدأ منذ الطفولة، وينتهي بأحفاد يتأرجحون تحت شجرة التوت التي كانت يومها معكَ شتلة صغيرة، وغدت جذع متجذر في الأرض تحمل على أغصانها عناقيد من الأطفال اللاهين، ولعبة الغماية واالركيدة والحجله ووقعت الحرب في ..ويبدو ان الحرب التي وقعت في .. هي التي جعلتنا ننزف هذا الشوق الأسير ..!! رحمتك بنا لا أكثر..

 

لا يهم يا ساره لا يهم.. المهم ان لا تقع الحرب في العقول يا أبنتي.. فالحياة في نهاية المطاف ليست الا ايمان ورحيل، وان لم نعش بهذا المعنى ستضيع الحياة منا ونحن راحلون حتما عنها وسنخسر الخلود.. لأن الوطن ايضا لا يمكن له أن يكون آلها يا ساره ولا ينبغي له..

 

هذا الوطن الضجيج.. هو تلك الأصوات التي كنتُ اختلس الإستماع اليها في خلفية الهاتف، والجمع يحتفل بالمولود الجديد قبل أيام.." بحبك يا خالتو "، " وانا بحبك يا جوجو.. كيفو البوبو ؟" .."البوبو لونه احمل "،" احمل .. يعني مو أخضر "،"لأ .. لأ لونه احمل"، كأننا نولد بلون الموت يا صغيرتي..!! وبلون الحب..!! بلون الدم..!! وبلون الحرب..!! اليس الحب حربا..؟؟ اليس الحب دما ينزف الوجع ..؟؟ اليس الحب أذن موتا.!! ها هو اليوم  عيد الحب يلون الآفاق بالقاني.. كل شيء في كل مكان لونه احمل ..ما اغرب الحقائق ..وما أدهش الحياة..!!وما اتفه الإنسان ..!!

 

هذا الوطن الضجيج.. الذي لم تستطع ان تكون ولو جزءا من صوته يا حبيبي.. حتى لو أغرقتني بحنانك..فأنت نفسك من قتلني بصمته وهذا أعتراف آخر.. حتى غدت غربتي غربتين ووحشتي وحشتين.. ربما لأنك يوما ما لم تُجدْ التمثيل ولا الفن المسرحي أو الدراما الممتلئة حيوية ونشاط كما فعلتُ انا.. أختلفنا كثيرا رغم إتفاقنا ورغم الحب الكبير.. وبين حنانك وصمتك.. بينهما وبين  غربتي.. أستطعتَ ان تربكني  دوما..!!

 

وأنا المرأة الدراما ..المرأة المسرح.. الذي امتهنا الوقوف عليه انا وكفاح أيام الجامعه قبل ستة عشر عاما أو يزيد اويقل.. كم كتبنا، وكم دربّنا.. وكم مثّلنا الأدوار.. وكم كنا صديقتين حميمتين ، رغم انها تكبرني بعامين جامعيين.. أحترفتْ هي كتابة الوجع الفلسطيني بكل تفاصيله ودقائقه، تخرج من أحدى جهات المسرح لتعود دوما من جهته الثانية شهيداً.. وانا كما انا، اكتب الإنسان ومبادىء الإسلام العظيم، بحثا عن العدل ورفعا للظلم، فيما أراده الله لنا من نظام رسم معالمه بدقة متناهية لا يفقهها كثيرمن الناس ولا يستطيعون.. ربما لأن عقولهم خُشب مُسندة.. ربما لأنهم يظنون انهم يفقهون الحياة اكثر من الله..!!

 

اليوم وأنتَ تخرجُ عن صمتك كما في المناسبات دائما.. وتحدثني عن تلك العاهرة التي خلعت بين يديك ثوبها عن ثديين زرقاوين نوويين *بينهما وشم نبي.. وقالت :"هيت لك ان كنت َ تبحث عن وطن.. أو سأصرخ كإمرأة العزيز.. وتغدو في لمح من البصر كمجرم حرب، وأسيْرَ خيانة لم ترتكبها ابدا..!!

".. هيهات هيهات لها  يا حبيبي.. قل لها لا تكون السجون في هذا الزمن الا للورثة الحقيقيين ليوسف الأمين.. وربما لهكذا أسباب أيضا كتبت لك يوما " هروب " و" ثلج" واشياء أُخر .. اليوم وانت تحدثني عن غرورها المتناهي بجسدها وسطوته على السادة ورجالات القبائل.. ذكرتني بما روته لي كفاح قبل أيام على الهاتف، بعد انقطاع بيننا دام عشر سنوات وكأن حياتنا كلها غدت مسرحية كبيرة  نمثلها، الفارق الوحيد أننا هناك كنا نختار النهاية ونرتب الوصول اليها، هنا الأبواب مفتوحة على كل الإحتمالات ..

 

ولأن الشيء بالشيء يذكر ومن الضروري هنا ان يذكر .. كان كل ذنب عمّار الإسلامي المعتدل الذي أكمل  ماجستير دراسات إسلامية، أو ربما بحسب وصف الكثيرين، إسلامي يعني متأسلم يعني وصولي للسلطة.. يعني كلب يعني خائن الا لمصلحته وللسيادة وللحكم ..كان كل ذنبه، أنه اصبح له سمعة وصيت فاقت التصور وصلت الى مسامع الـ (أف ،بي ،آي )بما وهبه الله اياه من(كريزما )، استخدمها لخدمة جاليته العربية  المسلمة وتأليف قلوب الناس ورعاية الشباب فطرقواعليه الأبواب وكثرت الزيارات، وزادت وتيرة الإتصالات يوما إثر يوم ..مساومة إثر مساومة.

حتى وصل بهم الأمر أن وضعوه في السيارة، وأخذوه من بين يدي حياته المتواضعة، وكبلوا له زهده وساقوه الى مجمعات التسوق الفارهة.. قالوا له من هنا تشتري "أوبرا وينفري" ملذات الحياة و"مايكل جاكسون" و"جيمس بوند".. وهنا واقع الخيال الذي رسمته شهرزاد في الف ليلة وليلة فهذا قصر"مادونا" وذاك لـ "ساندرا" و"باربرا"..وانتْ.. سنلمع لك نعليك لتصل هامتك الى رقاب هؤلاء.. نحتاجك معنا، وفي صفنا..فشخصيتك مميزة وصلابتك فذة ولسانك طلق.. ستعيث في الأرض لهوا، وستصبح نجما سياسيا فذا، ستحتضنك الـ (سي، أن ،أن )..ستصبح نجم العرب، فنظر نظرة في النجوم وقال ربي.. أني سقيم ..حولوا حياته الى جحيم في ملاحقته لأجل خيانة اهله وناسه وأوطانه ..وكأفلام هوليود كانت البساطير المدججة بالسلاح تهرول نحوهما على بوابة الطائرة التي قررا انه لا مناص من أقتلاعها فورا والعودة الى احضان الوطن الفقير مهما كان فقيرا.. أكثر من عشرة مَحَافظ تُفتح ( أف ،بي، أي )،(أف، بي ، أي)،( أف، بي، أي) قالت وهي ترتجف حتى ابرقت السماء وجسدي ورأيتُ الرعد يزمجر من خلف نافذتي وفي قلبي:"كالمجرمين تماما يا أروى ساقونا في قاعات المطار ..وبعنف شديد احنوا له رأسه العنيد  وهو يدخل السيارة مكبلا بقيود الوفاء للوطن ولهذه الأمة.. وتركوني على قارعة الطريق بعد ان سحبوا مني كل شيء حتى هاتفي".
 في البرتقالي الغونتانامي  الذي يرتديه قالت له أشهر هيئة دفاع يرأسها أشهر محامٍ يهودي في البلاد، عينتها له الجالية المسلمة، وهذا ما أستطاعته من فعل:"..سيلقون بك يا عمّار فيما وراء الشمس حتى آلهك سيصعب عليه الأتيان بك من جديد ..عمّار .. قل لنا كل مخالفاتك القانونية وما فوق الطاولة وما تحت البساط ولا تجعلنا نتفاجأ بأي شيء في المرافعات".

" ولا مخالفة سير واحدة ، ولا مخالفة سيرواحدة  كن على يقين من ذلك " ..نفخ صدره وأكمل "أنا رجل.. رجل عربي شهم  هل تفهم ما اقوله لك، رجل يفهم ان من الرجولة احترام البلاد التي أحتضننتني ،وان احترم مواطنتي، ولأني احترمتها وكنت في بلادهم بانيا لا مخربا أرادوني لهم عبدا"

 

"في الجلسة النهائية في المحاكمات، كانت الجالية المسلمة كلها صائمة تلهج الى الله بالدعاء ..ثم بالدعاء ثم بالدعاء ثم مرة اخرى بالدعاء  ..كان رجاؤهم مقطوعاً الا من الله ..ماذا فعل العالم لسامي الحاج من قبل..؟؟ وماذا فعلوا لتيسير علوني ؟؟ وماذا فعلوا لغزة اليوم.. ؟؟ وماذا سيفعلون لنا .. ؟؟ هل سأتحدى انا وزوجي أمريكا بحالها من فعل من قبل ..؟؟  لم نكن نملك  اي شيء الا الدعاء..الا الله في قلوبنا..ووالديّ اللَّذين كانا في حالة صيام وقيام شهرمصيبتنا الكامل  لم يعودا يفعلان الا السجود ولم يعودا ينطقان الا بكلمة واحدة ياالله.. ياالله ..!! وفي هذه اللحظات كانا يفدياننا بكبشين أملحين ..وقبل إستراحة قصيرة للقضاة قبل إصدار الحكم الذي كانت الشمس تنتظره لتفغر فاهها وتبتلع عمار به، فتحرق وجوده حرقا ليصبح رمادا تذروه امريكا في الفضاء وتوزعه على الكواكب.."

 

قالت " دخل احدهم القاعة وضرب اعصاب عمار بمطرقة من حديد يغلي فانهار فجأة  بعد صمود ثابت وشديد ايام وليالٍ، وصرت انا أرتجف من بعيد واحدق به وبكل سكناته وهمهماته، وانا أرقب ووجهه الوردي وهو يتلون بالسواد المطلق وضع رأسه بين يديه وظننته غاب عن الوعي كانوا قد قالوا له.. صدر امر باعتقال زوجتك.. قال لي فيما بعد" لم اعد بعدها في الوجود مطلقا.. لم اعد اسمع اي شيء أو أرى اي شيء صعدت من فوري الى السماء.. سجدت بين يدي العرش ..قلت له أتوسل أليك.. اتوسل اليك.. ارجوك ياالله.. بعزتك بكبريائك.. ألست الله العظيم..!! الست رب هذا الكون الذي آمنت به عمري كله..!!الست رب امريكا وهؤلاء الأنذال..!! هاأنذا عبدك الضعيف بين يديك أحتاج اليك الآن ..!! وانا الذي ما كفرت بك يوما، ولا حتى حدقت يوما بالسماء من شدة تعظيمي لك..!! وعشت عمري كله  في محرابك.. ألم تحرمني ثلاثة عشر عاما الولد.. فصبرت وشكرت..لا غرورا بعملي ولكن أيمانا بجلالك وحكمتك.. أيمانا بقدرتك.. أتوسل أليك لا تترك زوجتي بين أيديهم.. أتوسل أليك الا كفاح.. الا كفاح الطاهرة.. أرفع أيديهم عنها.. أرجوك يا الله أرجوك ياالله.. أرفع أيديهم عنها فلا يمسوها بسوء.. احمها واجعلني فداءها أنا راضٍ ياالله افعل بي ما تشاء الا كفاح الا كفاح..!!" خرجنا جميعا من القاعة.. وبقي هناك وحيدا جاؤوا الي ّيا أروى  ومن غرفة الى غرفة ومن تعبئة بيانات الى تعبئة بيانات ومن رواق الى رواق وانا لا أفقه شيئا.

 

 كانت الملائكة تهرول خلفي، تغلق كل ابواب الزنازين التي مررنا بها، وتلقي بمفاتيحها في البحر.. تدق الأرض غضبا متأججا بأجنحتها..كانت الأشياء تحدث من حولي بشكل غريب ومتناقض.. كل شيء كان جاهزا لأعتقالي.. القيود.. الزي الخاص.. اوراق تحتاج فقط الى بعض التوقيعات وتوقيعي.. لكن كل شيء كان مرتبكاً.. كانت الملائكة تقوم بإتصالاتها تضرب أرقام هواتف على الخلويات والنقالات ثم تضعها على آذان رجالات الأمن والداخلية.. ولما أطمانتْ لتنفيذ اوامرها في آخر مكتب وصلتُ أليه وكان مجهزا فيه لأعتقالي بشكل تام، عادتْ لتهرول في الأروقة والممرات تصفع الأبواب والقرارات والعقول الأمريكية وعنجهيتها، حتى وصلتْ الى غرفة القضاة كانوا يشربون قهوة الإكسبرسوا ويضحكون.. سكبت ْالقهوة الحارقة على أفخاذهم وبقبضتها الحديدة سحبت فايل القرارات وغطسّته في آخر كوب قهوة ولطخت ْبه وجوههم.. ومن نواصيهم أخذت ثلاثة من الداخلية الى قاعة المحكمة حيث عمار ومحاميه وحيدين هناك.. ضجت القاعة بكم هائل من الملائكة.. جلسوا على كراسي الجمهور والقضاة والمسؤولون متكتفون متكاثفون مشدودون بالغضب والكبرياء.. بالعزيمة والعزة  وتنفيذ أوامر صدرت من السماء..  ووقف اثنان منهم  فوق رأس طاولة عمار، فجاء ضابط الداخلية وقال :" حسنا سترى اليوم كيف تكون جحيم امريكا "

فلطشته الملائكة من فورها على  فمه فغرق بالدماء ..مسح دماءه عن فيه بكفه

  وقال :"حسنا حسنا  " make with you a deal We wil  " سنعقد معك صفقة..نخرجك من هذه الورطة.. وتخرج من بلادنا من فورك.. ولكن ستوقع على اوراق قبل ذلك تتنازل فيها عن كل حقوقك  المدنية هنا وعن( الكرين كارد) وعن الضمانات الإجتماعية.. وتنصرف بلا رجعة "

 

قالت :" لم يستطع بكائي ان يتوقف مطلقا وانا في الطائرة كان قلبي يتفجر ينابيع ينابيع.. حتى  رفع عمار بيديه ذقني واشار الى النافذة وقال" انظري الى هناك"  كان الكبشان  الأملحان هناك يقفان على حافة الغيوم  والادعية كلها، طويلها وقصيرها، سمينها ونحيلها، أبتداءا بالجالية العربية، وانتهاءا بأدعية والدي ّتبتسم لنا وتستودعنا الأمان والسلامة.. اما الملائكة فقد كانت ترقى إلى السماء وهي  تكتب لنا  في الأفق  بلون الحب ..وبلون الوفاء الذي حفظنا عهده لله ومن ثمّ للوطن ..

 

"سلام قولا من رب رحيم، وامتازوا اليوم أيها المجرمون " ..

 

أليس الوفاء ايضا بلون الحب ..؟؟ الا يموت الشهداء الأوفياء بلون الحب والوطن والحرب ..!!

 

غفوت انا بعدها آمنة نعاسا، صوتا كان صاعدا خلف الملائكة بجناحين صغيرين وخدين يشبهان خدي عمار الورديين، كان ينادي على عمار "بابا ..بابا ..أنا بحبك يا بابا " " تعال يا بني تعال ..تعال الى حضني ..تعال "،"لو اتيت يا بابا ألى حضنك  لما نجوت يا بابا أبدا ا..ابدا يابابا أبدا " وتناهى في السماء ..رغما عن انفه نزفت دموعه ..لكنها  سطّرت على وجنتيه حمدا وشكرا لله.."

 

 غير ان المضحك في الموضوع ذاته،أنه وعلى بوابة الوطن ورغما عن انفه، كان ضابط الأمن في استقبالهم .." بدكم تعترفوا بكل اشي وتحكوا اللِّي صار من طقطق لسلام عليكو "، ولا زالوا يعترفون.. ولا زالوا يعترفون ..!!

 

غير أن الوطن لا يكون يوما ضابط أمن أبدا   ..!!

 

ولا زلت أنا ياصغيرتي "جود" أقف أمام نافذتي بلون كنزتي العنابية الداكنة وقبتها العالية وأنفاسي الحارقة.. بلون الحب ولون الدم، وربما بلون الموت المضرج بالوفاء، أحمل كثيرا من الأسرار في مآقي هذه العين.. تشبه عمار.. تشبه الوجع والأمانه.. وتشبه "البوبو" ببراءته وبلونه "الأحمل" !! ولا زلت أرسم كل خطوطي المتوازية وما اكثرها..!! على غباش النافذة أعترف بها لنفسي يوما إثر يوم، ومسرحية إثر أخرى على مسرح الحياة والأقدار.. أرقب سيارة مفخخة قيل في الأخبار إنها ستمر من هنا لتنفجر في هذا الحي المكتظ بالأجانب وقيل ربما لأسباب اخرى..!! ربما لأنه في هذا الزمن لم تعد "وقعت الحرب في" لعبة نلعبها في الحي  بل غدت تقع في كل شيء وفي كل اتجاه ومن كل أحد.. وأكثرها في العقول.. وفي اللعنات.. وفي الاتهامات..

 

إن صدف واغتالتنا المتفجرات كما فعلت الألسن من قبل في الوطن أوخارجه..أرجوكم لملموا مني ما استطعتم من أشلاء.. وادفنوني في تربة الوطن ولو لمرة أخيرة قولوا له إنني أحببته كثيرا.. كثيرا جدا حتى لو لم أعرف يوما كيف أقول له أنا  ذلك وبقيت اتلعثم أمامه.. لتكن نومتي الأخيرة في عروس الأردن.. في مسقط رأسي.. مدينتي وحبيبتي.. عروس الشمال.. في مدينة أربد ..!!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*رمز للعلم الإسرائيلي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كُتب يوم الأربعاء
الموافق13-2-2008م
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
‏14 ‏ابريل, ‏201010:09:32 م

تاريخ الاضافة : 15/04/2010 -- 03:03 PM
عدد المشاهدات :
5019
الإسم بالكامل :
البريد الإلكتروني :
التعليق :
 
   
أضف تعليقك

الإسم : Jaydee

09/11/2011 -- 10:09 AM

Umm, are you relaly just giving this info out for nothing?
 

الإسم : سمية

25/04/2011 -- 07:48 PM

سافرت بي الى الامس الذي كدت انساه لانني من فرط حبي وحنيني كدت انكر حاضري بحر من المشاعر يجتاحني اثرت بي ذكرى يا سارية وذكرى صامدون ايقظت اروى في داخلي كم اشتقت اليك سعيدة بتنشقي عبير وردك من جديد
 

الإسم : منى المنفلوطي

26/02/2011 -- 12:14 AM

كلما غصت أكثر فيمل تكتبين تأكدت تماما ً أنك من أبحث عنها ، لأكتشف إنك لم تهربي يوماً منا ، ولكنك كنت تهربين الينا وأنت تبحثين عن ذاك الوطن الضائع رغم أنه موجود في هذه الحكايات التي تنتقل بسرعة الألم ذاته الذي يكبلنا كوننا عاجزين عن الإمساك بخاصرة هذا الوطن؟ وأن تكوني بين وطنين وأنت المسافرة في أصقاع الأرض يجعل منك شبه آلهة ( واستغفر الله العظيم) لأنه مطلوب منك بناء هذا الوطن داخلك أولا حتى تستقيم معالمه في بيتك ثانياً ياااه ،،، رغم غربتي الداخلية، أدرك الأن إني لم أذق فعلا طعم الغربة ، فهنا بين هذه السطور كان الطعم المرّ يتسلل بين الأصابع وهي تنسج سطور هذه الحكاية سأكتفي بهذا فرذاذ المطر الدامع أقوى من الإحتمال
 

الإسم : ايناس ابوهنود

11/02/2011 -- 02:02 PM

ترددت كثيرا قبل ان تدق اناملي احرف الكتابة فأنى لسطورنا المبعثرة ان ترقى الى نسيجك البهي اروى اشكرك من كل قلبي فقد رويت عنا الذي لم نستطع يوما ان نقوله لمن حولنا اروى لك وطن شممت ترابه ونمت بين احضاته ودرجت على أرضه ونحن لنا وطن نعرف عنه فقط حكايا امي وستي وطفولة ابي لك وطن قد تملكي ان تعودي اليه ولنا وطن نشتهي ان ندفن فيه سلمت يمينك ياحبيبة
 

الإسم : مروة الخطيب

22/11/2010 -- 11:55 PM

كنت اتمنى ان اعيد ما قرأت مرة اخرى لاسجل بعد كل فقرة تعليقي واعجابي بهـا .. ولكن الكلمـات تسرق بعضهـا .. فالمشاعر التي يقولون انه باستطاعتنا ان نترجمها كلمـات , لم استطع بكلماتي الصغيرة ان اترجمها .. خجلت في لحظات .. وفي لحظات اخرى كانت القوة هي الشيء الوحيد الذي املكه .. ولكني عجزت بحق .. دموع الوطن .. وآهات الابنة .. وانتظار الحفيدة على ذلك الباب .. تبقى في النهاية .. كلمات كانها تراتيل وجد نرفعها بين ايدينا لتزفها الارواح الى الله .. ويبقى كل شيء بيديه .. رحماك يا رب ،، بارك الله فيك .. وشكرا لك ..
 
 
 

بحث
 
تم التطوير والتصميم من قبل أعالي التقنية تصميم مواقع جرافيكس أعالي للاعلان تصميم، مجلات، أعلان، تسويق، تصميم شعارات
© جميع الحقوق محفوظة باب الورد 2010
الرئيسية إتصل بنا أضف الى المفضلة