لو لم يكن إلَّا هكذا سبب لثورة في السعودية لكفى
"نحن هنا
كالعبيد، تماماً كالعبيد، منذ خمسين عامًا أو منذ ستين، منذ سبعين عامًا منا من حط
رحاله أو منذ مئة، ولا يعلم بحالنا إلا الدوائر الغاشمة والأوراق المفقودة لإثبات
وجودنا، وربما السجون."
ذلك ما قاله لي
ذاك الشخص، الذي ليس له اسم، وليس له هوية، ليس له عمل، وليس له رقم، ليس له حق في
التعليم، وليس له حق في التأمين الصحي، ليس ابن مدرسة وليس له حق في جامعة، لكنه
يعرف تمامًا ما دلالة كلمة وظيفة، لم يفتح القاموس يومًا ليدرس جذرها وغُصنها!علَّمهُ الجوع معنى المفردة وآثارها، فاتقن درسها، لكنه ليس له واجداده من قبله، وذريته
من بعده إلاَ الخوف، يقول ويُقسِم عليَّ
ألا أقول، خشية أن يعلم أحد بظلال ما قال. يعيش كما
عاش أجداده من قبله بتوفيق من الله، ويموتون يوم يموتون بتوفيق أعظم من الله، كأنهم
في معركة هروب من الحياة!
تلاحقهم الشرطة،
ويلاحقهم الأمن، في دائرة من المطاردة، لا لطردهم لأنهم في أمس الحاجة إلى وجودهم
حائرين، كطبقة دون، تشبه كثيرًا طبقة العبيد، ولكن تلك ليست قضيتي، ولا ما أريد ان
أكتب عنه، فما شأني أنا بهندي تافه، أو ميماري غريب هرب من بلاد الهندوس أو من
إضطهاد البوذيين بإسلامه، ألم نهرب نحن أيضاً من بلاد الحجاز أو بلاد العُرب أوطاني
بإسلامنا إلى بلد العدل أمريكا، أو إلى
بلد الرخاء السويد، أوليس كلنا في الإسلام عبيد!
وقضيتي ليست تلك البنية
التحتية في المملكة، وفقرها حتى من الزفت التي ترصف به الشوارع، وغرقها
يوم المطر بسبب عدم وجود المصارف، ولا كل المشاريع التي لا تنفذ إلا على
الورق ويتقاسم أرباحها أمير المنطقة ورئيس بلديتها والمعاونين له مع الوزير
المسؤول على النهب والسلب، فأنا لست مواطنة هناك ليهمني
أمر البلد، فقد حفظتَّنا وزارات التربية والتعليم جيدا في حصص المدرسة، حديث كريم
" أن من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه" فلنترك مالا يعنينا إلى من
يعنيهم الأمر من شعب المملكة!
ولن تكون قضيتي
التي اُرهق لأجلها قلمي إلحاح ابني عليَّ في مطار جدة أن أسمح له بالذهاب إلى
الحمام، بالطبع لم أرفض حماية لإحْرَامه من أن تعلق به النجاسة فهو طفل صغير ويمكن
تدارك الأمر لاحقًا، ولا تعليمًا له للصبر، فكم مرة سمحتُ لأولادي عندما كنا ننطلق
في رحلة إلى الغابة الحيوانية في جنوب أفريقيا بالدخول إلى حمامات إستراحاتها رغم
أنها تقع بين الوحوش المفترسة والبهائم العجم البكم، التي لا تعي طهارة ولا نظافة
وليس لديها من كتب الفقه المختصة بالطهارة ما يسد مكتبة كاملة، وجيل من الفقهاء،
وساعات طويلة من الحصص المخصصة! لكنني كنتُ أُصبِّره حتى نصل إلى الفندق بعد ساعة
ونصف في مكة، حماية له من أن يرى أول مايرى من حماسته للعمرة قذارة تفوق الوصف
ويكون حمام مطار المملكة هو أول الصور التي تعلق في ذهنه، وهو ذاهب إلى أقدس بقعة
على وجه الأرض! حماية له من مفارقة النجاسة والقداسة في بلد كهذا وهو بعد لا يعي معنى
المفارقات!
قضيتي ليست هذه ولا تلك، قضيتي بدأت منذ نعومة أظافري
في الصف الرابع الإبتدائي، حيث كنا نجلس خلف قضبان المدرسة تروي المعلمة القصة،
ونُردد على مسامعها، اسم الغار واسم الجبل واسم الرسول، ونحن نتلفت لبعضنا ونبتسم
فالقصة ملفتة، والقصة شيقة، والقصة مغامرة، والقصة مخاطرة، والقصة رعشة متزمل
متدثر بخيط أتاه من نورالسماء، والجبل في
عقل الطفل الصغير مجرة وتسلقه كتسلق كوكب، وجبريل وما سد من أفق ومحمد وما حدقت
عيناه في شمس، نوران يلتقيان على جبل من
نور! كلها لو كانت في قلب إمريء نِعس القلب كافر الذنب لكانت صحوة روح له لبُعد ثلاثي أو
خماسي أو سداسي لدنيا اعتاد أن يكون بُعدها اُحادي، فكيف اذا اجتمعت في قلب طفل صغير
بلغ اشده وبلغ اربعين سنة، وكانت به صبابة
عاشق متيم متبتل تبتيلا!
أذكر تماما ما كنت
ألبس، واذكر تماما كيف كنا نتكىء على الصخور، أذكر تماما كيف ضعنا في منتصف الجبل،
بل واذكر تماما كيف كانت أقدامنا الصغيرة أنا وأخوتي كثيرا ما تنزلق على الصخور
الملساء، واذكر تماما كيف كان أبي يقول لنا
ونحن في منتصف الجبل هنالك ممر لو وصلنا إليه لعرفنا طريقنا، وأذكر تمامًا كيف
اعتمت علينا الدنيا ونحن لم نهتد إلى طريقنا بعد، وأمي تنتظرنا في السيارة تحدثنا بعد
ذلك عن قلقها علينا، إذ ما عاد للصغار مع أبيهم اثرونحن نحاول أن نتتبع اثر
الرسول، واذكر تمامًا ولعله اكثر ما اذكره
حزني الدفين عندما قرر أبي أنه يجب أن نعود ادراجنا، فلم يعد يمكننا الإهتداء
للطريق في العتمة، حزن استمر معي بعدها ثلاثين عاما اشتهي لغار حراء وصولاً.
أما اليوم وقد
بلغتُ ما بلغ الرسول من عمر البعثة ولكن بقلب ضعيف هزيل، لا كقلب الكريم النابض عليه السلام، وبلغت قمة الجبل وادركت
مغزى تلك الحقبة وتلك العزلة، وكيف كانت ضرورة للتهيئة لا يشوب اهميتها شائبة،
فقد كان الجبل قاسيًا صلدا صلبًا، ولا
يرحم! فيه كبرياء شديدة، يأبى أن تتناوله كشربة ماء، فيه صعود لا كالصعود، وشموخ
بين جبال الأرض لا كالشموخ، الواقف عليه لا كأي واقف! والمتأمل وجه الحياة من
عليائه لا كأي متأمل! وإطلالته ليست ككل
إطلالة! وتلك حقائق روحية من يعلوه تعلو في نفسه بلا أدنى حيلة! جبل التقت فيه
السماء بالأرض، وابتعثتْ سفيرها منها إليها، واعلنت هديها عليه، في بعثة أخيرة، وفي
جلال مهيب، لا ينقطع شعورك به رغم انقطاع أنفاسك وأنت صاعده، كنتُ استريح بين
الدقائق القليلة في كل بضعة دقائق، ولم يعد قلبي يخفق من شدة التعب رغم وجود الدرج
لبعض تسهيل، بل غدا دماغي اكثر خفقانًا منه في محاولة لتناوب التعب معه، أو في
محاولة منه ليبقيه على تماسكه.
أما الشعور
بالهيبة، أما الشعور ببركة المكان فشأن آخر، بمجرد أن دخلتُ الغار ــ بعد استراحة
قليلة على ممر من الشقوق الصخرية استعدت فيها أنفاسي المنهكةــ، إنخرطت بالبكاء،
كل جزء في الجسد يرتجف في حنين طوته الروح
في الاعماق عمرا، لا قِبل للكلمات به، ولا
للنعوت بوصفه.
أما الجبل أما
الإستراحات وأما الدرج، فيمكنك بأدنى ملاحظة ان تطلق عليه جبل المزبلة! أو جبل
المهزلة! وتلك هي قضيتي، وليس لقضيتي علاقة ببركة المكان ولا بالتبرك ولا بالخلاف
الفقهي والنفسي بين العلماء والناس، ولا
بالكتب التي كُتيت في ذلك، وما رد به فلان على فلان! وما الذي نطلقه على تتيع عبد
الله بن عمر لكل اثر من أثار الرسول لدرجة انه قد قيل في مسند الإمام احمد بتحقيق الأرناؤوط أنه كان
يحب أن يقضي حتى حاجته في المكان التي قضاها رسول الله، ناهيك عن الصلاة في المكان
الذي صلى فيه أو الوقوف في المكان الذي وقف به، أو التفيء بظل الشجرة التي تفيأ
بظلالها، فكيف بغار حراء؟ وهل نطلق على ذلك كله
تبرك به عليه السلام أم إنه اقتداء أم انه وجد المحبين العاشقين؟ قضيتي
أبسط بكثيرمن ذلك ولا خلاف فقهي فيها
لأحد، إلا للذين يعشقون القذارة!
مكان كهذا وصلت فيه القذارة مبلغها ووصل فيه الإهمال
أشده. فما علاقة نظافة المكان وما علاقة نظافة جبل كريم كهذا، كان مهدًا لبسط أولى
آيات القرآن عليه بالتبرك؟ ولماذا يهمل كل هذا الإهمال؟ هل من الصعوبة بمكان تشكيل
لجنة للتناوب على نظافته أو لكنسه من اوساخ تتراكم عليه بحكم زيارة الناس له
وصعوده؟ أو ألم يقل محمد ابن عبد الله
" نظفوا افنيتكم ولا تشبهوا بيهود" أما إذا كان فناء الإسلام بهذا
الإتساخ فمن هو يا ترى اليهودي المسؤول عن ذلك؟! أم هل عجزت ميزانية المملكة عن هندسة درجه وإضاءته وترتيبه وتحسينه
كخير ما يليق، خدمة للناس وبعض تسهيل، فأنت تتكيء في جزء منه على حجارة الطريق أما
في الجزء الآخر فعلى (درابزين) أبكم يصم الإيدي المتعبة عن النهوض بالأجساد، أما اذا سألتَ عن استراحاته فليست أكثر من مكان لنعت
الفقر وشحه، ومذلته لمن فقد قريحته من الشعراء! فمن لم ينشرح صدره منهم شعرا صوفيا
في المكان سينشرح لا محالة عطفا على الباكستاني البائس واستراحته التي يديرها
أوعلى ذاك الذي يحاول التنظيف ليلملم بعض ريال، أو أخيه في الشقاء الذي استلقىت
جوارحه بعشوائية تتباكى العلل.
وإذا كان محمد بن
عبد الله يُشهدُ التاريخ أن جبل أُحد "جبل يحبنا ونحبه"، وإذا كان
الفاروق عمر بن الخطاب يوجه خطابه لنهر النيل، فيُقْرأ على مسامعه في مصر فيفيضُ
بأمر الله، يتحدثان مع جماد فيحنَّان عليه تارة ويتواصلان أُخر، فإن جبل النور،
ملتقى النورين، إن لم يكن جبلًا مقدسًا فهو على أقل تقدير جبل كريم، ومن يهين
الكريم لئيم!
وإن لم نكن نحن
أمة النظافة والطهارة، والأناقة والرقي، فأخْرِجوا من قصوركم، قلوبكم، سجاد الحرير
الذي أتيتم به من كشمير، واعْتِموها من أنوار إيطالية الصنع، كَسِّروا بلاط
فخامتكم، واتركوه مرتعًا للأوساخ والقذورات تجري بها الريح، ويجرح كعب الحقيقة
وكعوبكم، الحقيقة التي علمنا أياها ربيع العرب، الحقيقة التي تقول لو لم يكن من
سببٍ للثورة إلاَّ مفارقة النظافة والقذارة بين قلب الحاكم وقصره لكفى! المفارقة
التي تعني فيما عنته التجربة الحديثة، وشاهدناها بث حي ومباشر في ثورات العرب،
وأثبت وجودها شلال الدم في حمص اليوم ومصراتة من قبل، أن قلب الحاكم على شعبه حجر،
وسيف بتار أشر، تمامًا كما أن كل قصر منيف يُبنى على أكتاف العبيد، لا يُدك حين يُدك الا وقد هدَّهم أجمعين، وما سوريا
منا ببعيد.
وتلك هي قضيتي
أرعاها تماما، كما علمتنا المدرسة والحزب السياسي، والحركات القومية الجامعة،
وإعلام الدولة وجامع الوزارة وشيخ
الحكومة، ورهبة الحاكم يا أيتها المملكة،
أن لكل وطنه فليعتني كل بما يليه من وطن، أم أنا فوطني
وصلة السماء بالأرض وملتقى النورين. أنا وطني رسالة ذاك الملتقى أن يكون
قلبُ الحاكم نظيفًا، وأن يكون الشعبُّ مُكرما تمامًا كما هو القصر!
وما اكتبه للمرة
ثانية ليس تدخلًأ في الشأن الذي لا يعنيني، ولكنه بعض من حق الرسول على قلمي! ليس
اكثر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نُشر المقال في القدس العربي الموافق 6-3-2012م
http://www.alqudsalarabi.info/index.asp?fname=data/2012/03/03-06/06qpt477.htm