مِساسْ
لم تعد تستطيعُ أنْ تراه ، أو تعرفَ كيف تبدو ملامحه ، كيف ابتسمَ أو تكلم ؟ كيف أكلَ أو شرب ؟ ما لون بنطاله ؟ ما شكل قميصه ؟ ما نوع حذاءه ؟ بأي
سرعة خلع معطفه وارتدى عينيها ؟! هل مدَّ يديه للأمام وهو يشرح فكرته ؟ أم ارتد
للوراء ضاحكاً ضحكته؟ كيف اضطجع في جلسته ؟ ماذا كان رده على ذاك السؤال ؟ وماذا
كان سؤاله عن تلك الدهشة ؟! بأي وجه إستدار اليها ؟ هل أعلنت وجنتاه حياء في حمرة
أم تفلتت في عقال من جرأة ؟! أصبحتْ رؤيتها له غائمة في مجلسهِ وغدا وجوده ظلالاً في ظلال ! عندما تراهُ أو تجالسهُ لم تعد تستطيعُ أن تراه ولم تعد تعرفُ كيف بدتْ ملامحهُ ! ولا
ايهما قد أشعلَ أولاً قلبها أم سيجارته !
كانت تتحدث اليه كثيراً ، ثم تشعرُ أنَّ الفراغ قد ملأ
الكلام ، وفي الحساب القلبي لم تعرفْ له رقماً يعلوهُ أو يحده ، هو العدد بجملتهِ لا
تأتي معه أوائل ولا له نهاية ، هو النهي
والأمر .
ولمَّا كان يلقي بنظرهِ بعيدأ عن مرمى عينيها ، وأشعلَ يومها سيجارته ، هام عشقهُ في ضبابها يخفيه ، لا يريد أنْ يفتحَ لها باباً على قلبهِ ، ولم تكُن تريدُ الدخول ، يعاودُ نفثه دخانها يشي بخائنة
عينيه ، ساهمةٌ في الأفقِ قد تفترتْ نظرته وتكسرتْ حتى فاضَ بها العشق ، فتحدجتْ ، وكلما
ألقى للمساء راحة كفيِّه ، ألقاه المساء من فوره هدأة في حرير عينيها .
أحياناً كثيرة كانت
تُنْسي نفْسَها ما تشعرُ به ، كم مرَّة اعتبرتْهُ ظلاً غائبًا عن الحقيقة دونه زوجها
والولد ، تأبى أنْ تطويهِ في لحظةِ الذنبِ ثم تعاودُ نشرهُ كلما تخبطتْ به جبهةُ القلبِ ، وتأبى أنْ تستبدله رجلاً طارئاً بآخر ثابت .
تعلمُ جيداً أنَّ للحبِ جولةً في الفلسفةِ لا تهمه ظروف الأزمنة ولا الأمكنة ، يرتفع بخفقةٍ في القلب
ثمَّ يؤلهُها فكرة ، قد يأتي على الريق صلاة في صبحٍ ، أو بعد الغداء الدسم ظهراً
نجماً ساطعاً في السماء ، وقد يبقى مطوياً في حلم ، يبني لنفسه مدينته الفاضلة لكنه إن زاد طمعه في تجاوز فراشه غدا الفيلسوف مجرماً ، وغدت المدينة المدينة المحرمة !
يكتشفُ الحبُ مكانته بينهما
، ويعلم جيداً أن قيساً لم يكن ذروة سنامه ، فيربكها ، وما نامتْ يومًا على إثمهِ وما
همّت حتى بظلهِ ، وتعلم جيداً أنها لو اغتسلت بمائةٍ فجرٍ وتنشفت بأنهرٍ من قمر ، لا
مِساس بينهما ، لا مِساس ، وأنَّ النَّجم الأحمر الذي التفَّ حول الكون ثم غادر
أقرب إليها من مس شفتيه ، من مس رمش عينيه ، من النعاس بين يديه ، ذاك أنه لا
مِساس بينهما ، لا مِساس !
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت القصة في مجلة الدوحة
السنة الثالثة ــ العدد الثاني والثلاثون
حزيران 2010
نشرت في موقع الجزيرة توك
http://www.aljazeeratalk.net/node/6852
كتبت في يوم الأربعاء
الموافق 4-11-2009
الساعة :11:40 ظهراً
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ