الإنسانيون
الجدد ...
بين جرذنة القذافي ومقصلة لويس السادس عشر
والسنن.
ليس بلقمتين ولا
بثلاث ولا حتى بعشر لقم، ربما أكثر بمئة أو مئتين وربما أقل، ولكن
المهم أنَّ الفكرة التهمتنا هضمتنا أعادت صياغتنا ثم أفرغتنا في قالب جديد،
وأقنعتنا بأننا هكذا نولد من رحم حضارة، وآلة الغرب تعمل على إنهاك ضمائرنا
بالفكرة، تُصورنا أمام ذواتنا أننا لسنا إلا الحبر الجاف الذي أطلق على الإنسانية
بأفكاره القديمة الرصاص، وأهان قيم الحياة ومحبوها بجنون فكرتهم مقابل فكرة الحياة
لديهم.
أصبحنا نحن العرب، ونحن المسلمين، نفكر جميعا بلا
استثناء بنمط التفكير المادي الذي أرسى قواعده
الغرب بمفكريه، وانحازت إليه الرأسمالية البشعة ببشاعة الإلتهام. ولعل من
اولى خصائص هذا النمط من التفكير المادي أن تفكر أولا وقبل كل شيء بمصلحتك،وتضعها
نصب عينيك، وتتوسم بها المشورة لحياة أفضل، وكان من أولى مصالح العالم الغربي
المادي مضافا إليه عالم الشرق الروسي والصيني أن لا يتركوك أنت تغفر لنفسك عدائك
للإنسانية، وتبقى أسيرا لعقدة حقدك على الاخر، عقدة لمصطلح تم لصقه بك إلصاقا،
مصطلح الإرهاب الأشهر، فتم ابتزازنا تماما بنفس الطريقة الهولكوستية اليهودية،
ليتفرغ الغرب لمراجعة مصالحه معنا في كل حين ونحن لا نتفرغ الا لمصلحة واحدة
(إثبات إنسانيتنا لنا وله) نتشربها في أحايين حياتنا كلها، حتى ونحن في قمة
ثوراتنا، مع أن ذلك لم يكن من ضمن مصلحتنا ولكننا وفي قمة البحث عن مصلحتنا أصبحنا
شعرنا أم لم نشعر نحاول جعل مصلحتنا تختص
بمدى أعجاب الغرب بنا ومدى ما نلاقيه لديه من قبول، حتى نستطيع إقناعه بنا وبمشروعنا، أو ربما جعل البيت الأبيض رمزه يعلن
إسلامه هكذا مرة واحدة بإدارييه وموظفيه ومسؤوليه بلا مراجعه أو هوادة إثر انبهاره
بخلقنا الحضاري القويم وعدالة ما لدينا من
دين وأصبحنا بحد ذاتنا تهمة، نريد ان نبرأ انفسنا منها لإثبات إنسانيتنا.
ومع خروجنا على (الحاكم بأمرالغرب) وثورتنا عليه نصرا عزيزا بدأنا نتذوقه، ونتلذذ طعمه، سرعان
ما عدنا وفقدنا توازننا المنطقي في فهم حالة الثورة وتَجَاهلنا التاريخ بكل ما فيه
من معاني ومن فيه من أمم تحكي ثوراتها عبرا وقصصا، فقدنا توازننا المنطقي لأجل
إثبات إنسانيتنا مرة أخرى.
ووقع القذافي أسيرا بين يدينا فنهشنا لحم الثوار طريا
يرزق باسم إنسانيتنا، ولم نرحم الثورة ولا الثوار ولا
طبيعة المرحلة التي تقطعها الثورة تاريخيا وإنسانيا وتقطعها النفس الثائرة الغاضبة
المكبوتة وبدأنا نتصيد للثورة اخطاءها
ونضخمها ونفلسفها على حساب كرامة الطاغوت ورحمته، مصابين بحالة فوبيا من انفسنا لإثبات
إنسانيتنا، لقد تغلغلت تهمة الإرهاب في نفوسنا، حاولنا على إثرها صنع إنسانية
جديدة ترحم الطاغوت وتُشهِّر بالمساكين الذين وجدوا انفسهم بين عشية وضحاها يحملون
السلاح بالمقلوب من شدة جهلهم به، حتى اننا نسينا ما كنا نتغنى به من حكمة العقل
في اختلاف فتوى الشافعي في الشام عنها في مصر
لاختلاف طبيعة المكان، فكيف إذا اختلف المكان والزمان واعتبرنا غير منصفين أنَّ
رجلا بحجم 42 عاما من الطغيان يساوي جندي أسير في جيش مر عبر التاريخ من الآف
الجنود المحتملين. وتذكرنا المقولة التاريخية " اذهبوا فأنتم الطلقاء"
التي قيلت بحق شعب بأكمله ، ونسينا الأخرى " اقتلوهم حتى لو تعلقوا بأستار
الكعبة" ، التي قيلت في نفس المناسبة بحق سفاكين كانت عداوتهم شرا مستطيراعلى
الأمة، ثم تحدثنا في سمرنا بملء أفواهنا عن شربة سقاها صلاح الدين الأيوبي لملك
بيت المقدس (غي آل لوزينيان ) لما وقع أسيرا في معركة حطين كعهد له بالأمان في أسره
ونسينا قولته الشهيرة في حق أخ الملك نفسه
(أرناط) صاحب الكرك لما ناوله الملك (غي) ليشرب في ذات المناسبة "إنما
ناولتك، ولم آذن لك أن تسقيه، هذا لا عهد له عندي" ودق عنقه، مع أن الإثنين كانا أسيرين لكن ارناط كان ممن قتل
من المسلمين خلقا لا يغتفر له به، والأجمل أنَّ صلاح الدين الذين يتغنى الإنسانيون
الجدد برحمته كان قد نذر أنه لو ظفر بأرناط أسيرا لجز عنقه.
وخارج تاريخنا
الذي نرصده بطريقة عشوائية حسب محاولة إثبات إنسانيتنا ، تدخل الثورة الفرنسية
أعتى أبواب الظلم الثوري دون أن ترصدها
كاميرا واحدة لفضائية محتملة في ذلك
القرن، فلا نرى من الغرب سوى عصر التنوير فيه، وننسى وينسى العالم كيف أصبح الجيش
الثوري الفرنسي بقيادة جناحها المتطرف ومزاج قائدها العنفي الشامل محط رعب للشعب في زمن (روبيسير) سفاح فرنسا أو سفاح
الثورة، فماذا يمكن القول عن قطع رأس 32 ضحية في 28 دقيقة من المخالفين للثورة
وقطع رأس 12 رجل في خمس دقائق، وماذا يمكن القول عن ربط ما عدده 80 مسجون إلى بعض
في طابور وإطلاق طلقة مدفعية واحدة عليهم والذي لم بمت منهم تم الاجهاز علية
بالحراب والبنادق، وماذا يمكن أن تقول الكاميرات المعاصرة لو صورت الحدث، وكيف
يمكن أن تناقش الفضائيات كيف كان يتم قتل الأطفال الرضع ببرود شديد من رجال الثورة
(جناح اليعاقبة) خشية أن يثأروا اذا ما كبروا! حتى وقف (كارنو) أحد القيادات
الثورية قائلا :" أن الثورة تاكل أبنائها " ، ماذا يمكن ان تقول كاميرات
الفضائيات وهي تصور مقتل ستمائة الف في غضون أسابيع معدودة.
كل الذي تذكرناه
بإنسانيتنا الزائفة صفعة الدم التي غطت وجه القذافي، مع اننا لوتفقهنا بعضا من
حكمة لعرفنا أنَّ صفعة الدم التي غطت وجه القذافي ليست أكثر من دمٍ حرامٍ كان يعيش
في داخله أخرجته الثورة من مكمنه، أو لعلها توقيع الثورة على سقوط الطاغوت.
إن من لم يفهم ان
أسلوب التخلص من الخصوم السياسيين أو هنا
الطاغوت أتت أكلها عبر التاريخ ونالت من الجميع لن يستطيع ان يفهم شيئا، لقد مات لويس السادس عشر مللك فرنسا
وزوجته النمساوية ماري انطوانيت اللذين
قامت ضدهما ثورة فرنسا بذات المقصلة، وقطع رأسيهما بنفس البشاعة التي قطعا فيها
رؤوس قيادات الثورة، وفي ذات الميدان، كما مات روبسبيير قائد الثورة الهمجي بذات
المقصلة، حتى الطبيب جيلوتين الذي اخترع آلة الموت قُطع رأسه بها، إن اسلوب التخلص
من الطاغوت أتت اكلها على الجميع فماتوا
بذات الآلة، والذي لا يعتبر من مقولة لويس السادس عشرملك فرنسا لطبيبه المخترع
مقترحا عليه التعديل على آلة الموت لتكون القاطعة فيها بزاوية حادة بدلا من
الزواية القائمة تسهيلا لقطع الرأس، لتقطع رأسيهما هما الإثنين فلا عبرة له. فاذا
كنا لا نريد للثورة أنَّ تنقلب جحيما على أبنائها كما حدث في فرنسا من قصص يشيب
لها الولدان فعلى أقل تقدير للعبر أنه : لا موت كريم للطاغوت.
هكذا خلق القذافي مصطلح موته قبل مقتله فوصم شعبا بأكمله
بالجرذان ليموت كأكبر جرذ تاريخي شهدته الإنسانية لمن يفهم العبر، تماما كما قطعت
الزاوية الحادة للمقصلة رأس المللك الفرنسي الطاغية وزوجه وطبيبه. واذا كان قد آلم شفافيتنا ما شاهدناه من فعل غير حضاري من التلاعب بجثة القذافي،
فليس للثورة برمتها في ذلك ذنب وسيبقى الذنب هو ذنب القذافي الذي ارتدت اليه طاقته
السلبية التي نشرها بالهجوم الشرس على اعراض الناس شيبا وولدانا ونساء حتى بعد
موته.
أوما يزال فرعون موسى
تحت مشرط الإهانة على وجه الأرض؟! فتتنقل جثته بين معمل ومتحف وتسرق وتعاد
وتقع بين يدي كاميرا سائح ومشرط مجرب تدرس تفاصيل جسد الطاغية وتفك لفافت كفنه
واحدة إثر أخرى، وتعرضه في معامل الأشعة المقطعية، ومختبرات الحامض النووي، كأكبر
دليل على حركة السنن الفاعلة، فما بال من وصف نفسه بالرب الأعلى يخفق في لملمة
نفسه والإرتقاء من بين يدي أجيال تتعقبه حتى آخر رمق للكرامة، وما بال السنة
الكونية تتنتقم لمن عذبهم بعد آلاف السنين فتستخرجه من باطن الأرض وتتركهم في
داخلها في نومتهم هانئين مُكرمين ؟! وما بال الإنسانيين الجدد لا يشكلون لجنة لوقف
نزيف إهانة فرعون موسى باسم إنسانيتهم؟!
واذا كانت الثورات تمر بمراحل مختلفة ملتبسة متعددة وتأخذ
في كل فترة وجها مغايرا للوجه الذي قبلها لأن لها متطلباتها وهذا هو الواقع، فإن
للسنن أيضا واقعها ومتطلباتها، وتترك للطاغوت فرصة للعبرة قبل أن يقع المحظور، حتى
إذا ما عطس شعب أي شعب عطسة جماعية في وجه طاغوت جديد، لملم الحاكم ريقه وارتحل
حتى دون أن يكمل لبس جواربه.
واذا كان أصل الإنسانية رحمة، فإن علينا كإنسانيين
حقيقيين أن ندرك أن أقل رحمة تكمن في تحقيق العدالة للنفوس الثائرة لتشفى لا
لتشقى، فيشقى شعب بأكمله من بعد ولا يستطيع إستعادة توازنه النفسي الذي حرم منه
لعقود، أما من يريدون أن يترحموا على الطاغوت على حساب أن يموت الشعب في حياته
كمدا وقهرا فليراجع ما بداخله من طاغوت مثله .
إن دخولنا كحضاريين
بنجاح إلى زمن ما بعد الثورات، يعني في أهم ما يعنيه أن نستبطن مصالحنا
الحقيقية لا فيما يقوله لنا الغرب ايحاءً أوأفعالا، بل فيما تقوله لنا السنن، لأن السنن
هي أهم مبادىء الكون وقيمه، لحظتها سيصبح
فعلنا كله فعل حضاري حقيقي. ولنا في أوباما وبيته الأبيض خير شاهد فقد حذف جثة
خصمه في البحر كفعل عجز عن ذكره التاريخ في إي من كتبه وحكاياه لدولة ذات سيادة وقانون لا لثورة مازالت تجْلي
نفسها، دون أن يرف له جفن حفاظا على مصلحته الإنتخابية، ولم يرع لفعله أي خلق حضاري، فلماذا علينا أن نثبت
للرجل وحضارته الهمجية إنسانيتنا ؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر المقال في صحيفة القدس العربي
الموافق22-11-2011
إلكترونيا على الرابط التالي
http://www.alquds.co.uk/index.asp?fname=today%5C22qpt480.htm&arc
=data%5C2011%5C11%5C11
22%5C22qpt480.htm&fb_source=message
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ