-

كلام ساكت ...

كلام ساكت


اشترى الدستور والرأي والأهرام والراية والحياة اللندنية، والشرق الأوسط، والقدس العربي، والعرب اليوم، والخليج غداً، والإتحاد والفرقة، والأيام والطليعة وفي مؤخرة الركب، حتى صحيفة حُط بالخُرج اشتراها مبتسماً، فكر أيضاً في شراء صحيفة أبو نواس، عله يجد فيها مذاقاً مختلفاً، ضحك كثيراً وهو يقرأ في صحيفة الخازوق فتحمس لشرائها أكثر، وقف طويلاً أمام صحيفة الحقيقة الدوليَّة ثم عدل عن شرائها، عاد الى الكشك مرة ثانية ليتأملها من جديد، مط شفتيه للأمام، وضع يده على ذقنه، سرح فيها لبرهة من الوقت، حك رأسه، ثم دفع ثمنها ممتعضاً وغادر.

أثار انتباهه خبر تقسيم السودان في صحيفة الخرطوم اليوم، اسودَّت الدنيا في عينيه، كم مرة رفع يده أمام صورة البشير في التلفازصارخاً عليه "يا مجنون، يا مهستر..."، ما الفائدة، في كل مرَة كانت أم علي تضرب كفاً بكف، وترد عليه صارخة " ما حدا مجنون غيرك..." ثم تسحب من كَمِّ الصحف المتكدسة أمامه ما تنظف به نوافذ المنزل، وتعير جاراتها أيضاً، يخطف الصحيفة من يدها:" إليكِ عني، حسناً، هاكِ من الصحف التي قمتُ بأرشفة مقالاتها"، تنظر اليه نظرة شزرة، وتنفعل في وجهه "وهل أُنظف نوافذي بورق ممزق"، "لا، لا، أياكِ" ثم يناولها صفحة النعي وقد علت وجهه ابتسامة،"ها قد أرشفهم الموت، وأراحني من ملفهم، خذيهم كلهم أجمعين وبأكفانهم البيضاء، ألف مبروك" تزداد ابتسامته اتساعاً، "لا شك سيأتون لزيارتك الليلة، سيطقطقون على نوافذك اللامعة، سترينهم بوضوح شديد! هلمشوش، وعلمدوش، ورياضوش، والطبيب باطنوش!" تكتم خوفها الهستيري من سيرة العفاريت، وبالكاد ترفع يدها لتبدأ مواوايلها بالدعاء على الظلم والظالمين كعادتها، يرفع حاجبه وهو ينظر اليها، يتدارك غضبها "حسناً، حسناً، لِمَ الغضب؟ هاك صفحة أهل الفن سترقص النوافذ إذاً،  وربما تتعرى من ستائرها، سيدق العندليب على أوتاره، تن تن تن تن تنتن تن، وتحلمين أنت بغدٍ..." لا يكمل مزاحه، فثورة أم علي تكاد تقذف حمماً في وجهه، يسكتها متأففاً، "أوف، حسناً لن ترين أحداً، وحدي أنا هنا والحقيقة الدولية معي، ومقصي" يضحك، ويعاود انشغاله بأرشفة صحفه، ويبدأ علي  الجامعي بمزاحه مع أمه، وهو يحتل كرسيه الذي نادراً ما يغادره خلف شاشة الحاسوب:

"أمي، أمي، ملمع الزجاج الأصلي مع صفحات الفيس بوك" وبلهجة أكثر دعائية "دعي نوافذك سيدتي تعيش في ربوع الإعجاب، أنها صفحة ( اللايكات)، مجموعة اللايكات الجديدة، لواجهات أكثر شعبية"، يرد عليه مصطفى المستعد للخروج من باب البيت الى فضاء أرحب ساخراً منه "خاصة اذا استخدمت يا أمي الصفحات المليئة (بلايكات) هيفاء وهبي، انها أكثر الصفحات التي يزورها علي وأصدقاؤه، من باب اعتمادها كأوراق ثقافية وأبحاث علمية تعينه في مشروع تخرجه من الجامعه او ربما طرده

هيفاء وهبي تنشر سيقانها على الملأ (لايك)
هيفاء وهبي تنشر تقريرًا تؤيد فيه الحجاب كثقافة للمرأة العربية (لايك)
هيفاء وهبي بدون مكياج (لايك)
هيفاء وهبي بالمكياج الإسباني (لايك)
هيفاء وهبي تؤيد السمنة كمقياس للجمال الطبيعي للمرأة (لايك)
هيفاء وهبي أجمل رشيقة في العالم (لايك)
هيفاء وهبي تدفع خمس مليارات دولار للصعود للفضاء متحدية قوى الرجل العضلية (لايك)
هيفاء وهبي ترى أن البقاء في البيت أجمل ما يمكن أن تفعله الأمومة بالمرأة (لايك) 
سته في واحد يا أمي، تلميع الزجاج ثم تخبيصه بالطين، تكسيره ثم تلزيقه، نشر الغسيل على واجهته ثم تنشيفه، بالكاد ينهي مصطفي سخريته حتى يناوله علي ضربة بالحذاء تخبط بالباب الذي هرب منه إلى واجهته الشخصية شارعه في الحي .

 

 أما أم علي فلم يكن لديها الا واجهة واحدة تطل منها على ممشى حارتها الضيقة، ترى منها أم سليمان وهي قادمة من الحسبة تحمل البط  الذي تعشقه كل جمعه، والأستاذ فياض معلم الرياضيات في مدرسة ابنها مصطفى قادماً من دروسه الخصوصية متأخراً كل ليلة، يتصبب وجعاً من حماقات التلاميذ رغم نسائم الليل العليلة، مصطفى وحده من بين أبنائها الستة كانت وجهته دائماً الشارع، يتعرف من خلاله على حقائق المجتمع ويؤرشفها في ذاكرة سعتها 1000 (جيجا بايت)، فلا تحتل ملفاته كل واجهات المنزل وحوائطه كما تفعل أوراق أبو علي الصفراء، بالأمس القريب جاء بخلدون النجار ليصنع له رفوفاً جديدة في الممر الطويل الواصل بين الحمام والمطبخ، ليملأه بملفاته الجديدة، بعد أن ضاقت رفوفه القديمه بملفات والده وجدَّه من قبل، أبو علي الذي يحتفظ بحقائق وأخبار من صحف امتد عمرها الى ما قبل الحرب العالمية الأولى، لو علم بها موقع (ويكيليكس) لأثار فضائح بشأن حقائقها، أو لربما دفعت له مكتبة جامعة لندن العريقة مبالغ طائلة للحصول عليها، ولتغيرت واجهة أم علي وأصبحت تطل على بيت الأميرة سلمى في الضاحية الشمالية، بدلاً من العيش في الحواري القديمة، ومن يدري ربما تعقبه عليها المالكي وترملت أم علي في مكانها مع العفاريت.

ما زال مصطفى جالساً على قارعة الطريق يمارس هوياته في عدِّ الأشياء وحسابها، كم مرّة حسب عدد أرغفة الخبز التي أكلتها العائلة في الصباح الباكر وقسمها على عدد أفراد الأسرة، وضربها بمجموع أهل الحي ليعرف بذكائه الخاص كم يكسب مخبز الطحين الذهبي، وهل تستحق التجارة ترك المدرسة لأجل مردودها؟ كم مرَّة حسب عدد الدفاتر التي يشتريها والده بالجملة في بداية العام الدراسي من سوق أبو رميلة وقسمها على عدد أخوانه، كان يريد أن يعرف هل يستحق العلم كل هذا السخاء؟.

 كم مرَّة حسب عدد أيمان الطلاق التي سمعها من أبيه ورجالات الحي في المقاهي والطرقات والجوامع وهم يضحكون ويتعازمون على فنجان قهوة أو إلقاء نكتة، وقسمها على عدد الأسر ليكتشف انها قد تغرق مدينة بتعداد عشرة ملايين في بحر هادر متوثب كبحر موسى، كان يريد أن يعرف لماذا لم تحث تلك الأيمان الإمام ليصدر فتوى ترسل كل نساء الحي إلى بيوت آبائهنَّ وتطليقهنَّ؟ وهل ستكون أمه أول من يغادر؟! وما هو الجذر التربيعي للمرأة التي لا تأسى على كرامتها؟ وهل يكون التناسب طردياً بتجذر المرأة في بيتها مع كل تهديد؟.

كم مرَّة أخرى حسب عدد سيارات الأجرة التي تجاهلت الشباب على حساب الفتيات، وهل يتم تجاهل طلبات توظيف االذكور بنفس الطريقة على حساب توظيف الإناث؟ إذاً هل تستحق النساء دفع المهور وطلبات الزواج؟! وما علاقة الأرجيلة بنسبة العنوسة؟ وهل هناك نسبة وتناسب بين لبس الجينز للسيدات وبين قوامة الرجال؟ وأين يقف الجتا والجيب من كل هذا؟!، ألا يتدخل لحل معركة البقاء؟ ثم إنه إذا كانت النظرية السيرلينكية تعترف بقوامة المرأة، فتقدم هي المهر لمن تخطبه، فلماذا لم تبدأ نساؤنا حتى الآن بالعمل كخادمات؟. 

كم مرَّة حسب عدد المرضى الذين دخلوا المستشفى الحكومي قبالة شارعهم ولم يخرجوا منه البته، كان يريد أن يعرف هل تستحق دراسة الطب سبع سنوات؟ ولماذا لا يتم تشغيل الأطباء بحفر القبور؟ ألن يوفر ذلك على الدولة كمًا هائل من الأموال؟! ولماذا لا يتم توزيع تلك المصاريف على أهل البلاد؟ وهل سيؤدي غنى الناس إلى إنهاء مهنة الطب؟ أم انَّ مهنة الطب هي من تنهي حياة الناس؟ وما هو ناتج الفرق يا ترى بين الطبيب والمعلم؟ فإذا كان المعلم يجري عملياته على النفس ويعالج الفكر بالمعرفة؟ فلماذا يُحتقَرُ المعلم ويُحتَرمُ الطبيب؟ ويَفْقرُ المعلم ويَغْني الطبيب؟ ويُهان المعلم ويُكرَّم الطبيب؟ من علّم الطبيب أصلًا  كيف يفك شيفرة الحرف ليتعرف شيفرة الجسد؟! وأيهما أحق بالعناية إذًا الجسد أم النفس؟  وإذا كان الطبيب إنسانيًا كما يشاع فلماذا لم يدافع حتى الآن عن حق  المعلم في نقابة ؟.

 كان بطبعه يعشق حساب الأشياء وعدها، ثم تحليل المعلومات وأرشفتها في ذاكرته، معلوماته لم تكن سياسية كمعلومات أبيه، كان يحذر السياسة ويفضل الحديث إلى الصراصير التي تمر من تحت قدميه وهو يجلس على الرصيف، يصنف المعدم منها من الثري، كان يريد أن يعرف لماذا تظهر بعض الصراصيرأكثر أُبهة من غيرها، اكتشف أن  الصراصير أيضًا تعاني من الطبقية! النضرة منها تأتي من جهة الشمال حيث خصوبة الثلاجات، والسندريلات هناك يأكلن ولا يسمنَ، حتى الصراصير حدَّثنه عن النادي الرياضي.

 كانت الحياة بالنسبة لمصطفى ترتع بكثير من التفاصيل والألوان، تمكنه من عمل إحصاءات دقيقة، من المشاهدة فقط لو أمعن الناس النظر! وتمكنه أيضا من الاستغراق في المتعة، كانت آخر إحصائية يعد لها مصطفى دراسة شاملة عن عدد الشهادات التي كان على والده أبو علي أن  يجمعها من الدوائر الحكومية والوطنية والبيئية والنفسية وجمعية الرفق بالحيوان التي طالبته بها أمانة العاصمة الكبرى لزراعة شجرة، حتى إن آخر شهادة طالبه بها مدير أمانة العاصمة شهادة حسن سيرة وسلوك من المدرسة التي تخرج منها في الضفة الأخرى، حيث تم الاحتلال! 

يومها فكر أبو علي كثيرًا بزراعة شجرة على بوابة الحي تقي أهل الحي غلاء كيلو الليمون ويستظلُ بها الشباب العاطل عن العمل من صداع البطالة، وتوفر على الجارات وزوجته حديثا طويلًا يتفرع على بوابات البيوت عند استعارة ليمونه، فيتأخر الغداء!...أما حفر حوض صغير لزراعة النعنع فقد كتب مصطفى رسالة إلى مؤسسة (غنيس) للأرقام القياسية ضاحكًا مستهزئاً عن الرقم القياسي للتهم التي وجهت لأبيه وملاحقات أجهزة الأمن للأسرة، لمعرفة من الذي يسعى للإضرار بالأمن المائي لأسرائيل التي تقع على حدود نهر الأردن!!

 كان مصطفى يكتشف قضيته يومًا بعد يوم بالملاحظة، يعرف السياسة من خلال الاجتماع، كما تعرف أبوه السياسة من خلال الصحف، ووثّق التاريخ في ملف من ورق. وحده علي كان ينقش في الهواء كلامه الساكت، ماضيه وحاضره، يسجل في (الفيس بوك)  كل ذاكرته وينحت فيه من روحه، يستدل بالشبكة العنكبوتية براهين على وجوده واقتداره، تتضخم الأنا لديه بازدهار الأصدقاء، وتتشابك أعصابه بنبض الحاسوب المتسارع وتتعدد الوسائط أو الوسائد التي يتكئ عليها ليوثق لطلته على واجهات الناس فيعجب بهم ليعجبوا به! كان يؤسس لكيانه في باب الهوى كمن يكتب التاريخ على صفحة الماء ينتظر سطوع أشعة الشمس لتجفف عليه الحبر، لم تعنيه السياسة شيئًا ذلك إنه لم يرق له من الاجتماع الا كلامه الساكت...والكلام الساكت هو الكلام الذي اذا ما علا لا يُرى، واذا ما انهار بنيانه لا يُحدِث ضجيجًا، ولا يموت تحت أنقاضه قتيلٌ.

في تلك الأيام العصيبة التي قتلته بدأ يتعرف كل الأكشاك التي في طريقه إلى الجامعة وإلى البقالات المترامية هنا وهناك وباعة الصحف، يبحث في الشارع بهوس محموم عن واقعه، عن حاضره، عن تاريخه وذاكرته، يبحث عن كل كلمة تُكتب في الصحف عن مرض جنون السمك وأنف الشمس المزكوم وثورة النجوم، وعن أسباب انقطاع (النت)، وانفلونزا البحر المجنون، لم عطست  اليوم في عصره الشمس؟ ولم غضبت عليه الطبيعة و(فارم فيله) مليء بالحصاد والثمر والليمون والشجر؟! وكيف أكلت حيوانات البحر الكيبالات الضخمه؟ وابتلعت في أحشائها كل تغريداته في (تويتر)، وصوره في (فليكر)، وما دون الكلام، وصمت القهقهة، وما قبل تضخمه، وما بعد عزلته، من فتح شهيتها؟ وألهمها أن في الأسلاك حضارة من صمت بمذاق الشفق اذا أقبل، والغسق اذا وقب...

 كان يبحث عن هبة نار الشمس التي اتلفت (سيدياته)و (مومرياته)... وعن تلك الموجات الكهرومغناطيسية القادمة من باطن الشمس في عاصفة مغناطيسية هوجاء تحتل جواله وجهاز حاسوبه تعيث فيهما فسادًا... تعيده وسعيد وأحمد وعيسى وعمر ووائل ومحمود وعبد اللطيف وزياد وطه وعبد الرحمن وأنس وسالم وأمجد وبلال وعباس وفضل ورامي وأيسر وعثمان ومازن وخالد وصالح إلى مربعهم الأول، يتعارفون  في الحي وجها لوجه على ذات رصيف مصطفى، مذهولين مدهوشين، لا من أنباء انقطاع شبكة تواصلهم بل عن مكان تواجدها، هل كانوا كلهم غرقى في البحر...ولما رفعوا رؤوسهم  للشمس قضت على مخزونهم المعرفي بفلتة غضب واحدة...

يسرع كل صباح الى الشارع...يحدثه مصطفى عن أمله الضائع ... يتشابكان...تسقط منه صحيفة في وسط الزحام، يتأخر عن محاضرة، يصرخ في وجهه أستاذ، ويغضب هو في وجه أمه اذا ما نادته لجمع الغداء، كدر يخلفه كدر... همٌّ يسوقه هم، وإدمان يفتقد حبوبه، و(النت) لا يعود ولا تأتي به الأمنيات...والحبيبة خلف (الماسنجر) تختفي معالمها تصبح هلام في هلام... والسمك يأكل من(لايكاته) ولا يشبع، ومن بحثه في محركات البحث لجامعته ولا يتقيأ علامة واحدة دالة على جهده...لم جن جنون السمك يرقص ويغني زنقة زنقة؟! ... وساعة أخرى يثور، يقول أرحل يا علي ارحل...ثم يعاود رقصه على (يوتيوب) لعجرم ... ولما تجشأ تجشأ مرة واحدة كل حروف غوغل المزركشة في ذكرى التأسيس وعيد الميلاد، وما زالت الكيبلات تنقرض كما انقرض الديناصور، وأطل عهد أنساني جديد غاب فيه علي وبقي من اثره أبوه وأخوه ...

وحدها صحيفة الخازوق نَعَتْ عليّاً في أولى صفحاتها كوثيقة حية عن موت حضارة الكلام الساكت... ذلك أن الشبكة العنكبوتية لم تكن يومًا إلا بيتاً لوثائق التاريخ والعلوم عظيمًا لكنه بيتٌ شيد من وهن...وكلامه لم يكن إلا الكلام الساكت الذي إذا ما علا لا يُرى، وإذا ما انهار بنيانه لا يحدث ضجيجًا، ولا يموت تحت أنقاضه قتيلٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر في موقع الجزيرة توك 
الموافق 29- 05- 2011
http://aljazeeratalk.net/node/7999
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تاريخ الاضافة : 29/05/2011 -- 03:02 PM
عدد المشاهدات :
3185
الإسم بالكامل :
البريد الإلكتروني :
التعليق :
 
   
أضف تعليقك

الإسم : Hippie

09/11/2011 -- 08:32 AM

So excited I found this article as it made tnhigs much quicker!
 
 
 

بحث
 
تم التطوير والتصميم من قبل أعالي التقنية تصميم مواقع جرافيكس أعالي للاعلان تصميم، مجلات، أعلان، تسويق، تصميم شعارات
© جميع الحقوق محفوظة باب الورد 2010
الرئيسية إتصل بنا أضف الى المفضلة