الكيس !
عصبَ عينيه، فكَّر
كثيرا في حياته، إختياراته، جبروت الغرور الذي يلحُّ عليه أن يقاومْ حتى يصل الى
مبتغاه، مبتغاه الذي لا يقف عند حد، حدوده المنهارة أمام عجلته في الوصول،
القطار المسرع، وصوت الحديد الصدء من تحته، وصوتها اللحوح، ضمائره المتعددة
التي ينبش كل واحدة منها شخصية مغايرة فيه، شخصيته الهادئة الحزينة، شخصيته
الثائرة المجنونه، وتلك القابعة في ركن قصي ترقب كل ما حوله ومن حوله، وهذه
الذليلة عند أصابع قدميه تلبس حذاءها المرقع بطموحاته المُلوَّنة، سقط لحظتها الفقر من بين عينيه فبكى، وتذكَّرها.
كم مرَّة ٍ تجسَّسَ على كل الأحلام التي مرَّتْ مع أبخرة القهوة القادمة من مكتب
المدير يرتشفها، وعلى أحلام الطالعين والنازلين والعاملين، وشهادات
التقدير وحُسن الخطاب، وتواقيع دفاتر الحساب والغياب والنصب في الإجازات،
ومعدلات الرواتب، وأوشحة النساء العاملات، حتى شذى عطورهنَّ استنشقها متخفياً
خلف الباب!، كم مرَّة تجسَّسَ على سهام
النَّظرات واشتهى كعباً لإحدى الموظفات، لحظتها غادره الوفاء ونسيها، وفي إحدى
المرَّات تجسَّسَ على أرقام السيارات
وألوانها فوجدهن كلهنَّ ممشوقات، الا كعب قدميها أدماهما الكبرياء فأثقلت الأرض
بمشيتها فاختطفتها بعد كثير رجاء!.
كم مرِّة أخرى تجسَّسَ
على أبخرةِ القهوة لنائب المدير الطامح
للوصول بمكيدة نجلاء، حتى إنه في لحظة كان يعدُّ له قهوة الإجتماع في غرفته
الضيقة بعكس رحابة الأفق، حاول هذه
المرَّة أنَّ يتجسَّسَ على قلبه هو فوجده
هواء!.
أحلامه التي جاءت
من الماضي تتقافز أمام عينيه، فقدت قدرتها على البقاء وغطسْتْ في النوم، غطسَتْ
في السُبات، كل الفصول كانت تورقُ الا فصولَهُ، فصولُهُ كانت بعكس الفصول تمطر في
آب، وتجفُ عند عتبة الكانونين، مرهونة بحرارة الأفئدة أو رطوبتها، وأحياناً كثيرة كانت ترتهن بموعد
العزائم وتعزيل الخزائن، وزمن طويل يمر في الصقيع لمَّا يحملون الصيف ويرحلون
لمنتجع قد يقع في وسط باريس.
هكذا عاش حياته
يأكل مما يضعون له في الكيس، ويلبس مما وضعوا له في الكيس، حتى أنه كان يضحك مما يضعون له في
الكيس، ويجوع إن لم يضعوا له في الكيس، كان يجتمع كله في الكيس، وماتت هي بسبب ذاك الكيس، ولم يبق منها الا صدى صوتها
اللحوح يُصِّرُ أن يمزق الكيس، ترجوه أن يكسر يده عن أخذه وأن يكسر يد صاحِبهِ عن
فمه، بدلاً من أن يكسر قلبها. رأتْ الأرضَ يوماً تورقُ بالمطر دونما جهة تسقيها
الماء من كيسٍ أو يدٍ تراها، قررت أن يخفق قلبها في جذورها فلا ترى الكيس ولا
يراها.
كان يعلم أنَّ
الله قد قسَّم الدنيا درجات، وأنَّ درجته
كانت درجةً مكسورة، وكان يعلم أنَّ صمته هو مفتاح البقاء، وأنَّ النَّظر الى
أعلى يعني السقوط الى الخلف، وأنَّ السقوط على فقرة من مسيرة الحياة يعني غرق الفقرات الأخرى كلِّها في الألم، لم يستطع أنْ يحصل على درجة
الماجستير ولا شهادة البكالوريوس، وتخرَّج من صفوف الإعدادية الأولى، وبدلاً من
ان تتعدد شهاداته تعددت شخصيته، فكر
يوماً في أن يقتل المدير وزوجته وفستانها ذاك الذي رمته في الكيس،
فكر يوماً في أن يقتل نائب المدير، وفكر ايضاً أن يقتل كلَّ من قتلها بالكيس،
فكر كثيراً أن يقتُلَ صوتها الذي أحبَّهُ وقتلهُ، ذهب الى مرقدها الأخير، حمل كل الورود الذابلة الباقية من حفل
زفاف ابنة المدير وضعها في الكيس، ولما اقترب من قبرها لم يعرف أحدٌ هل قتلها أم أحياها؟ هل مات لأجلها
أم عاش بدونها؟.
روى الناس فيما
رووا أن كيسا ممزقاً عليه آثار كبرياء ودماء كان يئن بلا صوت. وأن وروداً ذابلة
بكت معها، وعليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت القصة في مجلة الدوحة
السنة الرابعة ــ العدد التاسع والثلاثين
محرم ــ 1432ــ كانون الثاني ــ 2011
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ