برتقال
كان يقصف كليثٍ مزمجرٍ في داخل بيتها رغم ليلةٍ ربيعيةٍ
تنعس في احضانها الرعود...ورغم كل تعرجات الموت التي كانت تحتل كل شبرٍ من جسده
ضرب بقبضته الطاولة المتوسطة في غرفة الجلوس فوقعت المزهرية أرضا، وفارقت ورودها
الحياة ونزفت المياه منها كدماءٍ شفافةٍ لا يُرى معها اثرٌ لجريمةٍ ولا يعاقبْ
عليها القانون .
كسا ابو فهد وجهه بالجريدة التي كانت تكبر عناوينها
وتصغر بحسب كل هطول لذبذبات صوت والده المزمجر على اعصابه المرهقة ، وغدا وجهه
يتلون بالأشعة تحت الحمراء لا تُرى ولا يُرى معها اثرٌ لردة فعل...كان كل طموح ابو
فهد ان تمنحه جدران هذا المنزل لحظات من الهدوء تسترخي معها احداث الصحف اليومية
في منزل ويُعلن وقف إطلاق النار .
أما حما أم فهد فقد كان طموحه أوسع من ذلك بكثير :
ــ لقد حذرتكم جميعا ومنذ الأمس أنَّ الخرفان المحشية يجب
أن تُحشى بورق العنب وليس الفريكة !
والـجميع هنا ، لا يقصد بها الا خادمتين أم فهد ثالثتهما
أو رئيستهما ، لكن أم فهد قدَّرت ان تصنع وعاءً خاصاً بورق العنب زيادةً في
الإكرام.
ردَّت الباب وردَّت لسانها في ثغرها المتورد نضارة عن المحاججة
. وخرجت عبر الباب الخارجي لمطبخها الى فضاء أرحم ، فقد كان كل شيء في حياتها يحكي
اثر الثراء والنعم ، حتى جسدها قد غرق عبر السنون في ذاك البحر...كتفاها ، ثدياها
، ردفاها الممتلئين اغراءً وشهوة...أما وجهها فقد صبَّت فيه دالية العنب التي تقف
تحتها كلَ سَكْرتَه...ولم يتوانى ثوبها
الطويل أن يروي قِصّة اكتمال آثار النعم لأهل الجيرة والحي...فلم تكن فيه اية
قَصّة لخواصر نحيلة روى فيما روى أنَّ يد الحبيب مرَّت عبر تلك الإنحناءات وملأتها
لحماً وشحماً وخرفاناً مزينة باللوز والصنوبر فغدا شكل أم فهد أقرب ما يكون الى
المستطيل منه الى الدائرة ولولا أنِّ الأقدار منحتها بعض طولٍ لتكورت اكثر وماعاد
هناك فرق بين علو لمعدة أو علو لثدي .
أغلق فهد باب غرفته متجاهلاً كل أصوات المعدة الغوغائية
وهي تقرقع على لسان جده ، وعلى ألسنة ثلاثين محركاً لسيارات تغادر بأصوات غليظة
باب بيتهم بعد ان أُتخمت كروشها، وهو يحادث صديقه عبر هاتفه عن كل تلك الكلمات
البحثية التي وضعها في "غوغل" فجمع من خلالها كماً هائلا من الأوصاف
والنعوت ليغزل منها شعراً يليق بتلك الأديبة الحسناء التي اختار ان يكتب عنها
موضوع الإنشاء ، بدلا من الكتابة عن الأديب العربي مصطفى صادق الرافعي الذي كان
خيار صديقه الثاني وعنوان درسهم في نصوص الإعدادية ، كانا يضحكان كمن يعد لفرش
شبكة عنكبوتية في غرفة الصف لصيد الأستاذ
اولاً.
كان كل طموح فهد ان يُغرق الصف ببحر من القلوب اللاهثة وهو يُعرِّجُ بكلماته على كل
تضاريس جسد " الأونروا" موضوع الإنشاء ، وصفاً دقيقاً يليق بما كتبه لها
الرافعي فقد أيقن الإثنان بتخميناتهما الذكيِّة وبعد حديث طويل شاق أنَّ "
الأونروا " ما هي الا حبيبة الرافعي التي
كتب لأجلها " أوراق الورد ".
أرهفت ام فهد
سمعها لصوت آخر عذب رقيق ناسب وحده الربيع وطموحها قادماً من نافذة البناية الملاصقة لسور
بيتها ، استطاع أنْ يمسح دمعة ضائعة بين أروقة طناجرها لم تذرفها يوماً قط ، وقفت
ضاحكة تحت دالية العنب وهي تستمع لكل
تموجات صوت جارتها أم علاء يعلو تارة ويهبط تارة أخرى بأنغام طفولية تجعل طفليها
يقفزان على السرير طوال الوقت من شدة السرور والفضول وهي تروي لهما قصة ما قبل
النوم :
"وكان ياما
كان...وكانت سلام...فتاة صغيرة دائمة الإبتسام ، وكانت سلام مصمِّمة أنْ تجلس على
عرش النجمات...لكن الطريقَ الى السماء طــــــــويلٌ طــــــــويلٌ جداً والفضاءَ
كبيــــــــــــرٌ كبيـــــــــــرٌ جداً وقلب سلام أحلامه عظام يسع كل المدن
والقرى والمجرات... لكن الكواكبَ منها ما كان يذيبُ الامال...ومنها ما يجمدَ
الأحلام...كيف ستصعد إذاً سلام... زقزقت العصافير لها كيف بنت أعشاشها وان هناك
سلالم طوال تستطيع صنعها من الأغصان لكن السٌّلم الجميل بقي قصيراً...قصـــــــيراً
قصيـــــراً جدا ، وحزن سلام صار عقيماً... عقيـــــماً عقيـــــماً جداً ، رغم أنَّ
عزمها كان كبيراً...كبيـــــراً كبيــــراً جداً حتى أنه أكبر من الفيلة الضخام...رقَّت
الغيمات لحال سلام فنسجت لها من قطنها الأبيض الكث حبالاً بيضاء طوالاً وأكملت للسِّلم
المشوار وأخيراً وبعد جهد عظيم...عظيـــــم جداً وصلت سلام ، صفقت لها الغزلان
والعصافير والحمام ، ودنت الشمس من حبات العرق المتصبب على جبين سلام ومسحتها بقوس
قزح فتزجلت عليه الفراشات والغزلان والحمام ولعبوا مع سلام وضحكوا حتى تعبوا...وفجأة
من الفجآت سقطت خريطة سلام في فم البئر الشرير سيد الظلام ، وبكت سلام كيف ستكمل
الطريق الى النَّجمات النَّائمات وتُحقق الأحلام في وضح النهار...قالت لها
الغزالان : لا تخافي يا سلام نحن غُزلان السماء لنا أجنحة جميلات رقيقات سنحاول أنْ
نُساعدك ، ولكننا يجب ان نعبىء من نفط الأرض السولار والبنزين لتدفعنا في الأجواء
الى الامام .
وفي تلك الاثناء كانت النَّجمات تتململ نائمات ترى في
المنام أنَّ طفلة صغيره تريد أنَّ تُصبح شمساً منيرة ، وغيمة مطيرة ، ولكن الشُهب
والنيازك الشريرة بالتعاون مع البئر
والذئب سيد المكر والخديعة المريرة ، كانوا يضعون الخطط المريبة الخطيرة .
وفجأة من الفجآت
، وفجأة عظيمة من الفجآت ، وأكبر المفاجآت ، كانت أنْ دقَّ الباب يا صغاري الأخيار وعليَّ ان اذهب وأرى
من هذا الجار ، فانتظروا ولا تتحركوا حتى آتيكم بآخر الأخبار ضحكت أم علاء وهي
تقفز من بين اطفالها لترى من الطارق .
كادت أم فهد تحت إلحاح أم علاء أنْ تدخل لتشرب فنجان
قهوة حلوة ولكنها ولما رأت الطفلين الصغيرين يطلَّان من خلف باب الممر متسللين
متهامسين "ربما وصل النيزك" ، "هل سيضرب سلام" كانت عيونهما
تلمعان ترقباً وخوفاً عندما رأياها على مصير القصَّة أنْ يطول بها المقام ، ضحكت ، وإكتفت
بتقديم الصحن الطيب اللذيذ الَّذي أعدته لأم علاء من مطبخها الذي لا يتوقف عن
الإنجاب ، تحنو عليها كما تحنو على أُختها الصغيرة وهي تعلم علم اليقين كم تحاول أم
علاء أنْ تخفض حرارة فُرنها مخافة أنْ تتحكم نيرانه في مصير طفليها أو مصير أبحاثها
ودراساتها العليا .
وعلى مدخل مرآب بيتها الذي يخفق قلبها كلما اقتربت منه...هدأت
فجأة الرعود...وتخلى بعدها الربيع عن خفره وتعرى راقصاً على أنغام "روتانا"
الَّتي غدت تصدح بالحي علامة دالة على استيقاظ ابنتها نورا من نومها إثر يوم جامعي
طويل ، صوتان صاخبان متناقضان لا يزالان يحتلان صوتها الذي لم تسمع يوما صداه ، رعد حماها وغنج
ابنتها .
كانت نورا تنهي
عشاءها ، وتقف على صحن برتقال يتمدد نضراً على مائدة الطعام بذات لون الدهشة الذي
تقف عليه أم فهد في كل دقيقة من حياتها كأنها لم تتجاوز الأربعين قط... وقفت على
البوابة الخارجية لمطبخها...نظرت الى النجوم...نظرت الى نورا ، أرهفت السمع لصوت
الغزلان تساعد سلام...أرهفت السمع لصوت روتانا يدكُ حنجرة حماها، سألتها باهتمام :
- وأنت يا نورا بماذا تحلمين ؟
ضحكت نورا وقالت بتوسل ورجاء :
- أنْ تُقشري لي هذه البرتقالة يا أمي ، أكره التقشير !!
همست ام فهد :
- والنجمات...؟!
- ماذا قلت يا أمي ؟
- لا شيء...لا شيء...هاتِ صحن البرتقال .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت هذه القصة في مجلة الدوحة
السنة الثالثة ــ العدد الخامس والعشرون
ذو القعدة1430 ــ تشرين الثاني 2009م
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت أيضا في موقع الجزيرة توك الإلكتروني
الموافق الخميس 28 ــ تشرين الأول ــ 2010م
وكُتبت في 22 ــ أيلول ــ 2009م
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ