-

حكايات غير عادية عن محاكم التفتيش..

حكايات غير عادية عن محاكم التفتيش!!

تهرول أرغفة الخبز خارجة من الفرن كلما اشتمت رائحة وليد قادماً اليها..كل رغيف يرنو الى ثغره ليكون مستقره هناك.. بين حرارة ضحكاته.. وحلاوة أوتاره..بين رخامة صوته..وثقة حروفه بنفسها وتعالي معانيه.. بين اجتماع الشمس مع ابنائها في محياه.. وطلة ثقافته السمراء.

أطلق وليد زفرة حارة بحرارة الفرن، ساخنة دافئة فطيرة اللبنة التي أعدتها له أمه، حمل حقيبته والتحق بصديقيه علي واحمد المنتظرين على يمين البقالة في الزاوية الشمالية من الحي.. مشى وأحمد على طريق المدرسه يتبعهم علي المنهمك بقضم فطيرة الزيت والزعتر.. وهما منهمكان بمناقشة درس التاريخ..لقد وجدا أخيرأ " فجر الإندلس" لـ"حسين مؤنس" المرجع الأهم الذي طلبه الأستاذ مركوناً في مكتبة الرساله وسط البلد، لإقامة الأدلة على الجدل الدائر بين الأستاذ وبينهما وانتقل بدوره لأبيه وأبي أحمد حتى العم أبا سليمان أكد عليه وهو يشتري الخبز منه  هذا الصباح أن يطلعه على نتائج حوارهم حامي الوطيس مع الأستاذ...هل فعلاً قُتل لذريق في ذات معركة " وادي لكة  " مع طارق بن زياد أم أنه فر مع فلول القوطيين جهة الشرق وأعاد بناء عدته هناك  وقتل  عند نهر وادي الطين ناحية مرسية ؟؟ وكيف انتقلت مائدة سليمان عليه السلام الى طليطلة أم أن انتقالها من بيت المقدس مجرد أسطورة مسيحي ذاك الزمان ؟

رغم حب وليد الجارف للتاريخ ودقته في تحقيق أخباره فهو يعد العدة لدراسة الفيزياء التي يزداد بها شغفاً يوماً إثر يوم، فاذا كان التاريخ يحدثنا عن حركة دوران الناس في الزمن، فإن الفيزياء تعرفنا بحركة دوران الزمن في الكون...!!ووليد يريد أن يعرف كيف يلتقي الناس والزمن بلحظة الخلود؟ فيتلاشى الزمن، ويبقى الخالدون، ومن أي قطب من أقطاب السموات ينفذون اليه يا ترى ؟!

  وبانتظار أصدقاءهم الثلاثة اجتمعت (الضحكة) و(الدهشة)، و(العلم) يلبس بدلته الرسمية يجلس أمامهم (الوقار) خلف الإذاعة المدرسية.. تقدم (الوقار) بصوت أحمد فقرأ فاتحة الكتاب فابتدأ بتبديد  شمل النعاس من أعين التلاميذ.. أما (العلم) فقد كان دائما مضطراً ان يرافق (الضحكة) مغتاظاً من فُكاهات عليٍ العلمية رغم ما تزخر به سمنته المحببة من معلومات، استرسل علي في بيان حيرة العلماء الذين لم يزوروا القطب الشمالي يوماً عن سبب امتناع الدب الأبيض من أكل البطاريق والتهامها، حتى همهمت طوابير التلاميذ ببعض الإجابات، ضحك علي وقال: ببساطة لأن الدب القطبي يعيش في القطب الشمالي والبطاريق تعيش في القطب الجنوبي، لكن العلماء لم يسافروا الى هناك ليتأكدوا !

روى وليد  في فقرته الإخبارية "أخبار عمتي" كيف حاول الخليفة العباسي الأذكى أبو جعفر المنصور الإحتيال على شعراء بلاده، ومنعهم الأعطيات على قصائدهم، باستخدام حافظته وحافظة غلامه من بعده وجاريته، فكاد يطيح بهم واحداً تلو الآخر، معلناً بأسهم وشقائهم أمام عنفوان ذكائه وإحكام قبضته عليهم فيما يمتهنونه من نظم القصيد، حتى تَرصَّده الأصمعي فكاد يطيح ببيت مال المسلمين، فيفنيه عن بكرة أبيه، بوزن عامود الرخام الذي حمله معه من بيت المال كجائزة لفوزه على الخليفة وكشف مؤامرته، ثم تلا وليد قصيدة الأصمعي "صوت صفير البلبل" فمولل وكمكم وقيقل وولول وعسلل ودندن وطبطب وسقسق وشَوْشَوا وقلقل وكعكع وقنقل وحولل حتى احولَّت عيون التلاميذ وهم يتابعون  صوت صفير البلبل من شفتيه، وفتحت الأمهات نوافذ بيوتهن  يتضاحكن من أعلى البنايات وهنّ يستمعن اليه، خرج الأساتذة من صالة اجتماعهم منصتين تعلو وجوههم ابتسامة، وعدَّل المدير من وقفته أمام الطوابير، والأهالي على الشبابيك، شدَّ كتفيه، وعلا برأسه متفاخراً بطالبه النجيب وليد، حتى العم ابو سليمان اقسم عليه أن يعيد على مسامعه القصيدة أكثر من مرة عندما تلقفه في الطريق .

وليد وحده  الذي كان حزيناً...والدهشة وحدها التي كانت ترافق أخباره الإذاعية  تعرف سرَّ أحزانه، قالت له عمته  يوماً على الهاتف: "عادت محاكم التفتيش يا وليد، لم يعد يهم أن أصبح الأجنبي يدرس الألف elfin والباء baaun هذا ان رغب بدراسة العربية أصلاً  في بلادنا. لكن سيدة البلاد الأولى الشيخة سميحة بنت خالد بنت عدوان بنت فالح بنت مشخبط بنت مفلح بنت ملخبط الثعلبي تُصرُ على تعميد بحر العرب بروايات من حرف شكسبير"...وتطهير أولادنا من خطيئة عروبتهم الأولى التي ارتكبها آدم النبي،  حين تعلم الأسماء، رغم أن طارقاً بن زياد ين عبد الله بن ولغو بن ورفجوم بن نبرغاسن بن ولهاص بن يطوفت بن نفزاو حمل العروبة على أكتافه البربرية الامازيغية فعرَّب بها بلادا بأكملها، وتتلمذ في فناءات ابن رشد اجداد شكسبير وفولتير. لكن لا تقلق يا وليد فسيعود التاريخ يوماً ليلفظ عاجلاً أم آجلاً كل تواقيع الزبد !

 التقط علي ٌ خبره العلمي لليوم التالي وهو يجالس وليد وأحمد على درجات عمارتهم يستمع لما يرويه وليد عن  حكايا عمته في بلاد " عدنان بن صولجان " فصاغ خبره العلمي في الإذاعة ساخراً :

لماذا وقَعَتْ عشرة كلاب أرضاً في يوم نشاط مدرسي في بلاد "  عدنان " وهي تحاول أن تقدم عرضاً بهلوانياً امام الأساتذة اليونانيين والهولنديين والأمريكيين والرومانيين والبريطانيين وقيل (إسرائيليين)  في "مدرسة ديانا الإعدادية" ، أجاب : ببساطة لأن ابناء عدنان ألبسوا الكلاب اثناء عرضها المسرحي  نظارات شمسية ماركة "persol " والتي تمنع نفاذ الأشعة الضارة الى عيونهم،  فوقعت  الكلاب أرضاً حين لم تستطع أن ترى شيئاً في المدرسة !  

أكمل وليد برنامج الإذاعة الصباحي وهو يحكي هو و(الدهشة) "أخبار عمتي"، يعلم الجميع والأمهات على الشبابيك ان اخبار وليد حقيقية حتى ولو مثَّل لها، قال: " رحل  الأصمعي عبر الزمن هذه المرة، يومها كان مضطراً لذلك، فقد علم  أن طفلة صغيرة في السابعة من عمرها  قامت لترقص على صوت الفاتحة  عندما افتتحت بها خطأً حفلاً في مسرح " مدرسة ديكارت الثانوية "المجاورة لـ "مدارس ديانا الإعدادية" والذي كانت تسمع تجويده لأول مرة فظنته موسيقى حداثية!! ظهر الأصمعي على مسرح المدرسة.. أمام جمع غفير من وزيرات التربية ومدريري التعليم.. كادوا يقبضون عليه وهو يلقي قصيدة عصماء هازئاً بمحاكم التفتيش العربية على شواطيء العرب، لكن التاريخ ركض اليه..أحتضنه.. حماه.. وأدخله في أوسع ابوابه..

في ذاك المساء ايضاً كادوا يقبضون على (بحر العرب).. كان صوته عالياً هائجاً وهو يقاوم، فقد حاولوا كثيراً أن يزجُّوه، كله ومرة واحدة، في جحر الضب !  

   في تلك الأثناء قبض وليد في مختبره ومن خلف مجهره الفضائي المكبِّر على تلك اللحظة التي يتلاشى فيها الزمن ويبقى فيها الخالدون، كتب فيها بصوت مرتفع :

شتان يا سادة بين من يدخل التاريخ من اوسع أبوابه وبين من يدخله من جحر الضب !

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت هذه القصة في مجلة الدوحة 
السنة الثالثة ــ العدد الخامس والثلاثون
 رمضان1431 ــ أيلول ــ 2010م
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ونشرت أيضاً في موقع الجزيرة توك الإلكتروني
الموافق الجمعه 15 ــ تشرين الأول ــ 2010م
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــ


تاريخ الاضافة : 01/11/2010 -- 03:42 PM
عدد المشاهدات :
2986
الإسم بالكامل :
البريد الإلكتروني :
التعليق :
 
   
أضف تعليقك

الإسم : ميساء الخطيب

04/12/2010 -- 11:03 AM

جميل جدا ... جوزيت خيرا عن كل من قرأ و استفاد
 

الإسم : الدكتور جمال محمود حجر

13/11/2010 -- 04:56 AM

السلام عليك سيدتي التقيتك ذات مرة، وقرأت لك بالصدفة غير مرة، وتعلقت بقلمك هذه المرة. ما هذا الإبداع الراقي فكرا ولغة وموضوعا؟ وأدركت وأنا عائد لتوي من لقاء مع صيدلي كان يشكو لي ضياع العلم في زحمة الصراع على المال، وضياع المال في غيبة الإنسانيات، وانهيار الإنسانيات مع انزواء العلم وسطوة المال وتغييب قيمة التاريخ الذي يسجل كل هذا وغيره. سيدتي أكاد أرى الصراع المحموم يأخذ بيد اللا إنسانيين إلى جحر الضب سيرا على بقايا وأشلاء الفقراء والإنسانيين، ووسط هذا المشهد يقف التاريخ صامتا يلتقط بقايا الإنسانيين ليأخذ بيدهم إلى حيث بابه الواسع. تقبلي تحياتي أ.د. جمال محمود حجر أستاذ التاريخ الحديث بجامعة الإسكندرية ت 0020123322844 مصر ت0097433173787 الدوحة
 
 
 

بحث
 
تم التطوير والتصميم من قبل أعالي التقنية تصميم مواقع جرافيكس أعالي للاعلان تصميم، مجلات، أعلان، تسويق، تصميم شعارات
© جميع الحقوق محفوظة باب الورد 2010
الرئيسية إتصل بنا أضف الى المفضلة