لماذا..؟؟..!!
رفعنا الملعقتين كل الى فمها لنلتهم صحن الشوربة الدافئ اللذيذ...
فقالت : الفاتحة يا أروى..
قلت : لا لن يفعلوها ..
واذا بصوت يصدح من خلف المايكروفون...الفــــــــاتحـــــة..
الفاتحة على ما تبقى من برستيج لنا نحن الإثنتين...
الفاتحة على أرواحنا الضاحكة حتى الثمالة...
على النكتة التي جمعتنا خلال عشرة أيام أو يزيد...قضيناها كأمتع ما يمكن لصديقي عمر
طويل أن يقضوها ونحن اللتان لم نلتقي إلا هنا في تركيا وفي هذا المؤتمر الخاص بالشباب واتحادات الطلاب الجامعية...
الفاتحة..على صحن الشوربة..انخرطنا بالضحك من جديد..طارت كل أبخرة الشوربة فأصبحت باهتة متلبدة...حملقت بنا كل عيون المؤتمرين رجالا ونساءا... بيضا... وسمرا عربا... وتركا... غطست دموعنا في صحن الشوربة فضحك معنا... وارتجت أكتاف كراسينا فكدنا نقع أرضا...
لماذا يصمم هؤلاء الأتراك على إبتداء كل شيء بالفاتحة...لهم على كل حال طريقتهم...تلك هي بلادهم... ونحن سنبقى ضيوفهم...
بعد العشاء المحترم جاءوا الينا بجحا على مسرح للعرائس ليضحكوا قلوبنا ..
- رانية..اذاك بالله عليك هو جحا...
- أنا هو جحا...وأنت هبنقة...
- هبنقة...!!
- نعم هبنقة...
هبنقة الذي يصحوا كل يوم فيقف أمام المرآة ويسأل صورته فيها : " إذا كنت أنت هبنقة فمن أكون أنا..؟؟ "
ضحكنا على شخوصنا الجديدة... وغادرنا المكان... كنا نفترق عند لحظة صعود الباصكانت تلتزم وفدها وكنت ألتزم وفد زوجي...
في مسجد جلال الدين الرومي... هذا الصوفي الجليل وعلى أعتاب ضريحه تجولنا فيما يشبه المتحف لآثاره وكتبه وكثير من نظرياته في الحياة...
أوقفتني اللحظة الشاردة في دماغي... التي تحاول دائما أن تفهم كيف يفكر الآخر...لكنني لم أستطع أن أفهم...
لماذا نريد دائما أن نعبد الله كما نشتهي نحن...؟؟..!! ولا نعبده كما يريد هو ...؟؟..!!
لماذا نرسم له صورة...!! ونحاول أن نقولبه فيها ونجسده بداخلها...!!! لتتلائم عبادتنا له مع مزاجنا.. ونظرياتنا.. وموروثاتنا ...!!!
لماذا نفرض على الله طريقتنا الخاصة في الوصول إليه... ولا نحاول أن نخضع نحن لطريقته التي تترجم لنا كيفية رضاه عنا وقبوله لنا...!!!
من هو الرب فينا يا ترى...نحن أم هو..؟؟..!! من هم القطب والغوث والأبدال... الذين نستغيث بهم ونبدل لأجلهم عبادة الله بعبادتهم...؟؟..!!
من شرودي ذاك... نادى المنادي علينا أن سيتم عرض رقصات تعبدية لأحفاد الرومي وأتباعه في القاعة الفارغة من كل شيء إلا الهواء... أو ربما طينية أجسادنا..!!!
جلس كل الزائرين من المؤتمرين على الأرض الملساء.. دخل شيخ مهيب بشموخ أنفه وعباءته السوداء... لم أستطع أن التقط السماء في وجهه... ولم أرى عليه إلا آثار الآدمية البحتة... ومن خلفه تسعة من الرهط بفساتينهم البيضاء الطويلة وطرابيشهم الحمراء... بدأوا يتعبدون الله بجوقة موسيقية تعزف في زاوية القاعة موسيقاها الصوفية الغائثة المستغيثة...
وبدأت الفساتين المزنرة من وسطها... المتشعبة وسعا عند أقدام المتصوفين بالتداخل في وسط القاعة رقصا وارتفاعا نحو السماء... باللف والدوران... داخ معها عقلي في البحث عن الله في جنباتها...!! والذي عرفته دوما هنا كما يريد هو في شغاف قلبي...!!
كان الناس من حولنا خاشعين في تلك التمثيلية الروحية... إلآنا نحن الاثنتين وبما إننا كنا نتمتع بنفس الروح الساخرة... عدنا لتعليقاتنا الهازئة وضحكاتنا الصامتة المتفلتة بين جنبات القاعة هنا وهناك... لم نصمت لحظة حاولنا غير أننا لم نفلح...
- أنظري يا رانية كيف يشكل هؤلاء القوم الكواكب التسعة ويدورون كما تدور في السماء.. وهذا شيخهم هو شمسهم ...
- من قال لك هذا ..؟؟
- هبنقة يحزر...يحزر كل شيء..
انتهت جلستنا التي إبتدأتها رانية بالفاتحة... أما خاتمتها فكانت بهدلة وتوبيخا من سيدة
أخذتها حالة الوجد... قالت لي :
- هل تعلمين أنك كنت تجلسين على قدمي طوال الوقت...!!
- أعتذر لك... ولكن لماذا لم تخبرينني..؟؟
قالت:
- لأنني أحترم المكان الذي يحترم الله.. ولا أنبس ببنت شفه...!! وأنتما الاثنتان هل توقفتما عن الهمس والتعليق أو الضحك لحظة...؟؟..!!
أشاحت رانية بوجهها عني وابتعدت كأنها لا تعرفني وهي تضحك... أما أنا فقد تحولت مباشرة إلى صرصور مرتبك... يركض هاربا إلى الزاوية من حالة قتل من سيدة كانت في حالة وجل إلهي رأت شيطانها أمامها فكادت أن تخنقه...؟؟
فرقنا الباص مرة أخرى...
على موائد المثقفين.. والمفكرين في أوقات الغداء والعشاء كان يجلس بقربنا...يضحك لنكت رانية التي لا تنتهي... بدأ بالابتسام أولا والمشاركة ثانيا...لينتهي بنظرات الحب والغرام ثالثا... حتى أوقعها بعينيه غزلا...
كنت أرقب عينيه الواسعتين وهما تسرقان لقطة من عينيها...وأنا التي أذوب أمام قصص الحب ولو كانت خيالا فأتجنبها دوما... فمالي وأنا أراها تنطق أمامي بكل خلجاتها وسكناتها... ولكنها لم تكن تتركني أقرا العيون واستمتع... فتأتيني الضربة بقدمها منتحت الطاولة ...
- آآآخ...رانية...رجلي...
تهمس ببرائتها :
- ولكن هل رأيت كيف نظر الي...!!!
- رأيت ...رأيت...والله رأيت...وهل تسمتعين أنت بنظرات الحب من خلال قدميك فتضريبنني بها... ألا تتبخرين شوقا وحنانا... لقد أوجعتني...
كانت النظرات تتوالى...الساعة تلو الساعه وتتوالى معها الضربة تلو الأخرى... وإن لم يكن هناك في المشهد طاولة نجلس عليها تحولت ضربة القدم الى قرصة في الذراع...!!!
هو يقرص قلبها وهي تقرص ذراعي بدورها... تتأوه حبا.. وأتأوه وجعا..!!
ثم غدت سرقات العيون أكثر شراسة وأكثر ملاحقة وفي وضح النهار وتحت ضوء الشمس..!! وما عادت وجنتي رانية تصفو لرونقهما...ينتقل لونهما من احمرار الى احمرار.
هكذا عشنا قصة الحب سوية...أرختها إحدانا بقلبها...وتؤرخها الثانية بقلمها...
افترقنا واجتمعنا...اجتمعنا وافترقنا...
جاءتني بعد أيام ...وقد جاء دورها لتلقي كلمتها على منصة الخطابات... كانت تنتظر تلك اللحظة بفارغ الصبر ... كانت تريده أن يرى إبداع عقلها بجانب خفة روحها... قالت :
- عندما أصعد على المنصة تحييني كما حيا هبنقة جحا
- وهل حيا هبنقة جحا...هل التقيا في التاريخ يوما...؟؟
صكت على أسنانها:
- أروى...لا لم يلتقيا في التاريخ ...التقيا هنا في المؤتمر
- حاضر...حاضر...
كان في صوتها رنة حزن ...سألتها لأجلها:
- رانية...هل وعدك أن يأتي.. أم أنه سيتغيب...؟؟
- سافر..
- ســــافر..؟؟..!! كيف...بقي للمؤتمر أربعة أيام.
- هو على موعد...
- مـــــوعد..؟؟..!!
- موعد زفافه...
- رانــــــية...!!!
- موعد مع عروسه...
جن جنوني أكثر منها...!!
- كيف بالله عليك...إن كنت أنت تتوهمين... فهل فقدت أنا أيضا عقلي..؟؟..!!
وكل تلك الغراميات...وقلوب الحب التي تطايرت في الأجواء من عيونكما وما تحت الطاولة...وما فوق الذراع...وتبادل العناوين والايميلات والهواتف...
هذا هراء...هذا محض جنون.
لم أصدق... ولم تكن هي أيضا لتصدق... كدنا نبكي سوية... لكننا لم نفعل... ضحكنا بدلا من ذلك... ربما لأننا كنا نشتهي البكاء..نشتهيه بشده.. جلسنا في قاعة المؤتمر ذاهلتين..صامتتين.
عندما تختطفك لحظة الحب من نفسك و تهيأ لك أنها هناك..نقطة ضوء في حياتك قد تستنير بها... ثم ما تلبث أن تكتشف أنها سراب...وكلما حاولت أن تتماسك في تجربتك تلك تخطئ..وكلما أخطأت ندمت ...وكلما ندمت زادت معارك قلبك قبولا أو رفضا لهذا الحب ..ولكنك في النهاية تنكسر...لعل الحب يكون لصا...أن يسرق منك أبخس الأشياء أو اثمنها لا يهم... ولكنه يكفيه لصوصية أنه ينتهك حرمة قلبك...ويدخل دون استئذان ويجعلك تبدو أمام كبريائك كالأبله...كهبنقة...
عادت رانية الى مقعدها بعد التصفيق الحار...كانت ترسم الدوائر على ورقة تتكأ على ملفها الذي تضعه في حضنها..حول كلمة علّمت عليها بقلمها الف مرة وكتبتها ألفين...
لماذااااااااااااا...؟؟؟...!!!
ثم سألتني:
- لماذا لا يريد أن يتزوجني أحد...؟؟...!!!
دققت الأرض بأقدامي وشققتها...ثم أنزلقت من كرسيّ فيها وأختبئت..وأغلقتها عليّ...كنتأعلم تماما ماذا تريد أن تقول..والى أين ستصل بي ...التفتت حولها ولم تجدني..
- أروى...أخرجي... أرجوك...أحتاجك الآن...أحتاجك لوجعي الذي أرقني عمري كله.
صرخت داخل قلبي دون أن تسمعني ولكنني أكره المصارحات...لماذا لا يجد من أعرفهم غيري للمصارحة..قلبي لا يحتمل الألم...ولا يحتمل الحزن...لن أنام ليلي يا رانية ..لن أنام ولا زلت لم أنم لأجلك..أنا أدرى بنفسي...
أنثنت بجسدها من على الكرسي فتحت الأرض..شدتني من أكتافي وأخرجتني...غصبا عني
- هل تعلمين لماذا لا يريد أن يتقدم لخطبتي أحد ..؟؟..!!
تجاهلت وقلت:
- لا عليك يا رانية...لا زلت صغيرة...
كنا لم تتجاوز الواحدة فينا الخامسة والعشرين من عمرها...ولكنها استرسلت:
- ءلأنني سمينة..؟؟..
هل تتزوج السمينات يا أروى...؟؟؟
- وهل كان هذا الأحمق رشيقا..؟؟؟
- لا شك على الأقل أن عروسه كذلك..!!
- مهما يكن..هناك دائما ..الف حل وحل...
- إنها هرموناتي يا أروى..لن تتعدل يوما..ولن يوقف عنفوانها أي تخفيف لأي
من أصناف الطعام...لن يحتضن قلبي هذا ولو لأي لحظة رجل تحت سقف واحد ولن أرزق بطفل...أعرف قدري ..وأعرف مصيري..لن يكون لي سند بحياتي ربما هي صحتي التي سأتكأ عليها عندما أكبر..
لن يكون لخفة روحي ولا لذكاء عقلي أي تأثير على أحد..أكثر من لعبة قذرة..!!!
هكذا استطاع هو ان يتوج مرحنا وشغبنا في أيامنا تلك بجوهرة دامعة...ووداع حزين...غادرنا المكان..وغادرنا البلاد...ركبت هي طائرتها الى قمم الثلج...وركبت انا طائرتي الى غياهيب الجب...ومنذ ذلك اليوم لم نلتقي...
غير أنني لا زلت أتذكرك يا رانية...بعد مرور ما يزيد على السبعة أعوام على لقاءنا ...
وهاأنذا اليوم أكتب لأجلك...وعيوني لا زالت تترقرق لأجل عيونك...
أتذكرك يا رانية كلما ضحكت على صحن شوربة...!!
وكلما رأيت فتاة تجاوزت الخامسة والعشرين والسادسة والسابعة والثامنة وهي لا زالت أسيرة نفسها ...
وكلما رأيت شابا في ملعب لكرة المشاعر يرفس بأقدامه قلوب الفتيات دون أن يحرز هدفاواحدا...!!!
هل تظنين أن الرشيقات اليوم يتزوجون يا رانية..؟؟..!!
هل تزوجت أنت..؟؟..أم لا زال الشباب يلهون بعينيك الجميلتين..؟؟..!!
إشتقت اليك.....
"حدث في الذاكرة "
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت هذه القصة في مجلة الدوحة
السنة الأولى ــ العدد السابع ــ مايو2008
كتبت في 27ــ يناير ــ 2007
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ