نحن.. وما تصنعه بنا الأقدار!!
أحمد ديدات.. الرجل الموهبة.. الخميس, أيلول 30, 2010
أحمد ديدات هذا الرجل الذي قدرت له الأقدار شأنا في الدعوة فارتحل من الهند مسقط رأسه 1927، وقد وُلد فيها عام 1918، ليلحق بوالده العامل في شركة خياطة في جنوب إفريقيا، وكان رحيل أحمد ديدات ذاك هو آخر لقاء له بوالدته، فقد توفت بعده بأشهر قليلة.
الطفل الصغير في غربة موحشة، وبدون تعليم أساسي، وبلا موارد مادية كافية استطاع أن يتجاوز حاجز اللغة، وبالإعتماد على النفس استطاع متابعة تعليمه في المدرسة، وقد تفوق فيها وساعدته الترقية للوصل إلى المرحلة السادسة، غير أن المال حال بينه وبين مواصلة تعليمه، وفي ريعان الصبا ما يقارب الستة عشر عاما استطاع أن يحتفظ بوظيفة في المحلات التجارية، وهو يقول: " أنا أعتقد أنه قد قُدّر لي هذا الأمر (حوار أهل الكتاب بالحجة والبينة)..فكل شيء حدث معي بقدر، لم يكن أي شيء ضمن إختياري، لقد تركت المدرسة وعملت في المدينة أبيع الورود والأرز والمواد المختلفة، ولعل أكثر شيء كان له معنى في حياتي، ما حدث معي عندما عملت في مخزن لأحد المسلمين بالقرب من معهد للتعليم المسيحي (اللاهوتي)..لقد كنا نحن المسلمين نعرف.. كيف نصلي وكيف نصوم، ولا نشرب الخمر..وهذا أقصى ما نصبوا إليه ونطمع فيه..أما ما كان الطلبة المسيحين الخاضعين لتدريبات التبشير بالدين المسيحي يقولونه ويرددونه عن الإسلام من احتقار وازدراء كلما تسوقوا في المخزن..فلم أكن أعرف عنه شيئا..كان أحدهم يسخر دائما ويقول بتحدي: "محمد كان رجل جنس فله تسعة أزواج" ولم أكن أعرف عن هذا شيئا، "محمد كان يقول للناس أسلموا أو أقطع رؤوسكم"، ولم أكن أعرف عن هذا شيئا "، "محمد أخذ القرآن ونقله عن اليهود والنصارى"، وهذا أيضا لم أكن أعرف عنه شيئا ".
ولّد هذا الجهل بدين الإسلام، وهذا التحدي لأولئك المبشرين شعورا متزايد في نفس الداعية أحمد ديدات ورغبة جامحة بإبطال وضحد هذا الحقد والكذب النابع من مجمع التبشير.
وتشاء الأقدار أن يقع بين يدي الشاب ديدات "الحقيقة الظاهرة" وهو كتاب يتحدث عن النجاح الضخم الذي حققه المسلمون في الهند في مواجهة جموع المبشرين خلال الإستعمار البريطاني، وبهذه المشاعر المتأججة أقدم الشاب اليافع على خطوته الجريئة، واشترى إنجيله الأول وبدأ في نقاش أولئك المبشرين، غير أنهم سرعان ما تراجعوا عندما بدأ الخطر يحيق بما يبثون من معلومات.
ويصف ديدات أول حوار خاضه مع التبشيريين : "من ذلك اليوم لقد سلكت هذا الطريق وأصبحت مرغما على السير في هذا الإتجاه". وقد أمضى العقود الثلاثة اللاحقة من عمره غامرا نفسه بمجموعة من النشاطات، وهو العضو المؤسس للمركز العالمي لنشر الدعوة الإسلامية. وقد نشر ما يعادل عشرين كتابا، وأعطى الكثير من المحاضرات في أنحاء العالم، وأعلن الكثيرون إسلامهم كنتيجة لهذا الجهد، ونال ديدات جائزة الملك فيصل العالمية في عام 1981م، وكتبه تدرس في السعودية وكان يذهب ليعطي كثيرا من المحاضرات للطلبة هناك، ويمكننا القول أن المملكة العربية السعودية هي الدولة العربية الوحيدة التي احتضنته احتضانا كاملا. ويتضح من الحديث مع الداعية أحمد ديدات أن سياسته لم تكن في يوم من الأيام الدفاع عن الإسلام فهو في كل حواراته سلك نهج الهجوم والهجوم العنيف..وربما كانت هذه إحدى المآخذ عليه، ففي جنوب إفريقيا ينقسم المسلمون بين مؤيدين له وبين معارضين لسياسته معتبرين أن هذا الحوار في صلب الديانات بهذا الهجوم الكاسح كفيل بأن يباعد بين الآخرين وبين هذا الدين.
غير أن أحمد ديدات وبالرغم من سياسته هذه كانت لديه المقدرية على سحب البساط من تحت قدمي الخصم بخفة ورشاقة، ويبدو جليا أنه تلمس طريقه بحذر، واجتهد في اتباع الحكمة والموعظة الحسنة في أغلب محاضراته، وراوح بين الشدة واللين في كثير من الأحيان..ثم إن الأعداء كانوا ولا زالوا أشداء على هذا الدين، فلماذا نلين نحن ! كما أنهم يأخذون عليه أنه لا يهتم من قضايا المسلمين إلا بجانب واحد، غير أن أولئك الّذين ينتقدون هذا الجانب في عمل الداعية ينسون أن في أرض المعركة ثغوراً كثيرة، وهو يقف على ثغرته يملؤها في حين يندر أن تجد من يقف على مثل هذه الثغور ويكثر من يقف على غيرها.
ولأحمد ديدات رأيه الخاص في طبيعة الصراع بين العرب والمسلمين واليهود في فلسطين، ومع أن العلاقة القائمة بين الهنود المسلمين واليهود الجنوب إفريقيين علاقة يسودها التوتر، إلا أنه يقول عن الهنود بشكل عام: "إننا أمة مسالمة، هذه هي طبيعتنا النفسية..ويبدو ذلك واضحا إذا علمت أن نسبتنا في الشعب 2% بينما نمثل في الحكومة 10%، فنحن نعرف كيف نتعامل مع هذا المجتمع الخليط، ربما أستطيع أن أحمل السلاح، ولكنني أؤمن بالقتال الفكري من خلال المحادثة والحوار، وأستطيع أن أرى في حواري مع الغير وبالأخص اليهود بالنسبة لأحقية المسلمين في أرض فلسطين أستطيع أن أرى الشرخ والتأثر في نفسياتهم، نحن بعكس الأمة العربية والتي تتشابه طبيعتها مع طبيعة الألمان والفرنسيين.."
إن إيمان أحمد ديدات بالحوار إيمانا راسخا.. فهو يرى أن للحوار الأثر الأكبر في زعزعة المجتمع اليهودي المتدين، خاصة عند الإتيان بالأدلة القاطعة والبراهين على أحقية المسلمين في أرض فلسطين وأكاذيب اليهود وهو ينطلق من هذا المنطق لثقته بالأدلة التي يمتلكها ومن صلب التوراة، ويضرب على ذلك مثالا: " لقد عملت عند اليهود وزارني رئيسي في العمل يوما مع مجموعة يهودية سائحة، وادعى رئيسي أن فلسطين ملك لليهود..وقال لي : "إن الله قد أعطانا هذا الوعد يا ديدات، ففي جزء 17 من كتاب التكوين، قال الرب في التوراة "سأعطيك (أي يا إبراهيم) ولذريتك كل أرض كنعان، وأنا سأحميكم ".
قلت له: في كتاب التوراة الكتاب الخامس "إذا أخبرك الرب عن شيء ولم يحدث فهذا ليس وعد من الله" وفي القرآن أيضا : "إن وعد الله حق" فلنضع ما تقول يا سيدي في الإختبار، في التوراة نفسها عندما توفي سيدنا إبراهيم وذهب إسماعيل وإسحاق لدفنه في مغاره لم يستطيعوا دفنه، أتدري لماذا يا سيدي؟! لأنه كان عليهم أن يشتروا مكان القبر !! وهذا يعني أن إبراهيم مات ولم يكن يملك من الأرض مكان يُدفن فيه ".
ويتابع أحمد ديدات: " فكيف تكون فلسطين أرض الميعاد بالنسبة لليهود.. وعلى أحسن حال فإن الله أعطى وعده لإبراهيم وذريته حسب قولكم وهذا يعني أن المسلمين مشمولين في الموضوع وهم أبناء إسماعيل..هذا القول وقع كالصاعقة على مديري اليهودي، وأصبح حاله كقوله تعالى : "فبهت الذي كفر"، فقد استطاع أن يرى المنطق ثم إنه إعترف بصحة ما أقول.
ويُشبه أحمد ديدات حال المسلمين اليوم بحال العبد أو الخادم، الذي يقول له سيده إذهب ونادي لي ذلك الرجل الضال عن طريق بيتي، والخادم يتجاهل أمر سيده ويتغزل بوجهه ويقول له "ما أجمل وجهك يا سيدي، إنه يمتلئ نورا وجمالا.." والسيد يقول له: إذهب ونادي الرجل، والخادم يجيب : إن لحيتك كالحرير يا سيدي، وهكذا..."
" إن المسلمين اليوم تماما كذلك العبد فاقدين للخطاب الدعوي ولا يدركون كيفية ممارسته..وهم فاقدون لقواعد اللعبة، الجدال والحوار مع البرهان والدليل، ولعل هذا هو سر ضعفنا، والله تعالى يقول: "وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى" أجابهم الله بالإتيان بالبرهان "تلك أمانيهم..قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين".
مما لا شك فيه أن الداعية أحمد ديدات رجل متعمق في التوراة والإنجيل وله مقدرة عجيبة على الإتيان بالحجج الدامغة من الكتب السماوية نفسها، وهو يتمنى أن يزور فلسطين ويحاور حاخامت اليهود، ويبدو ذلك جليا في قوله بعد أن جاوز السبعين من عمره : "لقد تعلمت العبرية..أريد أن أذهب إلى فلسطين وأحاور حاخامات اليهود..ثم تلى آيات بالعبرية من التوارة، ورددها بالعربية : " سأقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك (يا موسى) وأقول كلامي فيه: فيكلمهم بكل ما أوصيه به، ويقول إن الإنسان الذي لا يتبع لكلامي، فيتكلم بإسمي، أنا أحاسبه". إنها آية التبشير بسيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم – لا زالت هناك في التوراة، وقليل من المسلمين يعلم بذلك، قالها الله تعالى لسيدنا موسى ليبشر بها قومه، وإنني لأتساءل ماذا سيكون رد فعل المسلمين واليهود معا على هذا؟.
لقد قلت لليهود وأريد أن أكرر هذا في زيارتي لفلسطين، "تعالوا وانضموا إلى هذا الدين..فلقد ربحتم الحروب كلها ضد العرب والمسلمين، ولكن إذا خسرتم مرة فستكون هذه نهايتكم..ولا يمكن أن تدعوا أنكم لن تخسروا في إحدى المعارك، حتى الإنجيل يبشر بخسارتكم ففيه " أن اليهود سيُأخذون مرة ثانية رجالا ونساء ويباعون في أسواق مصر عبيدا ولا أحد سيشتريهم".. قلت لهم: إن أحدا لن يشتريكم مع أنكم عبيد، إلا أن أحدا لن يفكر في شراءكم فتصبحون أقل من رتبة العبيد، فاحفظوا ماء وجهكم، وانضموا إلى هذ الدين المبشر به في توراتكم.
نسأل الله للداعية الشفاء العاجل ليتابع مشواره في حوار أهل الكتاب، بعد أن أصيب بالشلل التام إثر ذبحة صدرية، وهو لا يزال يرقد في مستشفى الرياض في المملكة العربية السعودية وقد بدأت عليه بوادر التحسن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من الأرشيف القديم:
نشر هذا المقال قبل ثلاثة عشر عاما
في مجلة فلسطين المسلمة، العدد الثاني،السنة الخامسة عشر
شباط1997م/رمضان1417ه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ملاحظة:
تم هذا اللقاء قبل مرض الداعية احمد ديدات بفترة وجيزة
وكان آخر لقاء صحفي له قبل مرضه،رحمه الله وأدخله فسيح جناته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ