صاروخ مزلزل بقياس 8 ريختر، هو وحده كفيل بإيقاظ زوجها من نومه صباح الجمعه، أما صوتها فهو أكثر دلالاً من أن يفعل أو حتى ضجيج أطفالهما الخمسة، غير أن اللوم دائماً يقع عليها بسبب تأخرهما عن الفطور، ولما يتناهى الى سمعه حروف اسمه على ثغر أمه قادماً من المنزل الكبير، يقفز كالشمبانزي واقفاً على رأس المائدة ممازحاً جمهرة الصغار من ابناء أخوته أو مداعبا الوليد الجديد، مبادرأً أباه بالتحية ونسوة أخوته بغمز الفكاهة وطراوتها، فيسود بحضوره الهرج والمرج، يمتص غضب إنتظارهم له.. ويرمقونها هي بنظرة خاصة .
في داخلها طوفان من القلق، كل رغبة تجتاحها تغرق بالرجاء أو تطفو على بحر الآمال.. وكثيراً ما تدعي أمام كسرة مرآتها أنها مصابة بمرض الشيخوخة المبكر فتريح نفسها من مراجعة المنسيات.
لم تقتنع يوماً أن تلك المخاصيم الموزعة على بوابات القرى والمدن لتقطيع اوصال الطرقات قد أصابت الناس بمرض التوحد العائلي.. فغدت الحياة ملكاً لنزوة رجل واحد، تكاثر فأصبحت له ظلال.. بل كثيراً ما اعتقدت أن ما يجرى لها، أو ربما لهنَّ، لا علاقة له بالحرب أو الإحتلال.
ها هي سلمى إمرأة عادل تحاول جاهدة أن تغير غرفة نومها التي ورثتها من حماتها في ليلة زفافها منذ عشر سنوات، "فهي غرفة متينة مصنوعة من خشب لا يقاوم، يعز أن تجد مثله هذه الأيام"، على أحد أقوال حماتها "ولا يمكن التفريط بها"على أحد أقوال حماها، ثم أن كان لا بد من التجديد فلابد من هدية لسيدة المنزل الأولى في يوم زفاف ابنها ..ما ضير سلمى أن نامت على سرير عمتها القديم المتين؟؟!! لا زالت صبية صغيرة ستأتيها الأيام بالجديد ..هكذا وافقت يوم عرسها على إرضاء رغبة العائلة..!! ولم يشتكي بعدها أحد.. وتم توارث الخشب !!
ثم ألم يتراكض أهالي " كفر سوسه "على بيتهم في ذاك المساء على صراخ حماها، ظناً منهم ان الجيش قد عاد لإعتقال ابنه ياسر..صك على أسنانه بقوة وهو يردد بعنف :
-لا تجادلني أكثر من هذا يا ولد.. والولد هذا هو ابن الأربعين من عمره..!!
لن آتي بالنجار، ولن تأتي به أنت !!
ضرب يومها ياسر زوجته وفاء حتى نفرت الدماء من حقوقها فانبطحت أرضاً، لإنها أرغمته بإلحاحها على معاندة والده لتغيير أبواب بيتها في الطابق السفلي، أضربت وفاء أيامها بصمت صعُب أستتاره على قريناتها عن الصعود الى المنزل الكبير وقت العجين والخبيز واستخراج الدسم من الحليب، تكيد لمطالبها، أما في مساء ذلك اليوم الذي سمع فيه الجميع صراخها يعلو من شقوق النوافذ، فسارعوا الى تهوية غرفهم بفتحها على مصراعيها، فقد خبأت مخالبها وخرجت في صباحه من بيتها قبل أن يعلو الخيط الأبيض نعاس عينيها، شمّرت عن ساعديها، وغدا رذاذ الطحين يعلو ثوبها.. ويرهق علواً في ناصيتها..!!
لامها الجميع يومها حتى زوجات أخوة زوجها (سلفاتها).. هؤلاء المتآمرات على الضعيفة منهنَّ.. صاحبة الحاجة.. عندما تزأر في وجهها القوة!! فما أهمية تغيير الأبواب الآن، الا يكفيها نعيم إنفصالها في بيت خاص حتى ولو كان خربوشاّ صغيراً.. لم تستطع ان تصرح لهن ّأن الشارب الذي رأته يخط على وجه ابنيّها سعد وهشام قد نبهها أن صوت قُبل زوجها على جسدها يحدث فرقعةً تتسرب االى آذان المراهقين من الأبواب المتهتكةَ، ربما كان عليها أن تفعل لتغيظهنَّ كلهنَّ، وعلى رأسهنَّ القائد الأعلى للقوات المسلحة عمتها الغيورة .
كم مرَّة حاولت أن تدافع عن رأيها وهي تُمرِّض نساء "كفر سوسه"والقرى المجاورة في المركز الصحي الذي تداوم فيه كنائبة مقيمة عن الطبيب أن ما يجري لهنَّ لا علاقة له بالإحتلال، تستدل بأدلة علمية موثقة من مشاهدتها المتكررة للإتجاه المعاكس أن الشعب العربي يتكاثر فيه الرجال بكثرة لكنهم يبقون في النهاية رجلا واحدا.. وأحيانا كثيرة أمراة واحدة كنائب عام على الأقل، ويكفي هذا الواحد من مراكز السلطة ان يكون أباً على تلة منسية خلف قطيع من الغنم او حتى اماً في غرفة واحدة فيها تسعة عشر نفرأزداد طولهم عن طولها .
تدق أشواقها للحرية بمدق الثوم لتشبع أنفها برائحة النفور من أفكارها.. أفكارها التي لا تهدأ تحدثها كيف تضطر النسوة للكيد لأحلامهن بسبب من منع تجوالها حتى ولو للذهاب للسوق المركزي لشراء الفجل والجرجير.. ولا تفتأ المرأة لذلك تكيد .
وتكيد إحداهن للإيقاع بأخرى.. وتكيد الأخرى لإقناع الناس ببراءتها، إمرأة العزيز فعلت من قبل، وزوجة عمَّ ابنتها رزان فعلت من قهر، أما هي فقد انفجر طوفان قهرها مرة واحدة وسط دهشة الجميع فوقفت ترد على حماها، بلا كيد أو خديعة، إثر حرمان العائلات من توزيع المصروف المقيد أصلاً بكثير من الشروط، بعد إفسادية من أحدى سلفاتها ان إبنتها الوحيدة رزان بين أخوتها الأربعة، تمتلك مجموعة من مجلات الأزياء التي تعرض النساء شبه عاريات، كم مرة حذرت ابنتها من انها ستصبح سبباً وجيها لخطبة جمعة شعواء أن علم احد بالخبر ..لكن رزان المهووسة بالفساتين قصيرها وطويلها عريضها وضيقها كانت تتسلى بالأمسيات مع نساء عمها وبناتهن باطلاعهن ّعلى آخر أصدار يشتريه لها والدها، معترضة على نهج أمها في التعايش مع الحرمان، مستغلة رغبة أبيها دوماً بالخروج عن المألوف، رغم أنه لم يسطع أن يلبي لأمها رغبتها الوحيدة منذ ثلاثة عشر عاماً بشراء ثلاجة !!.
نادت عليها عمتها أم ياسر بأعلى صوتها من منتصف طريقها الى المركز الصحي بعد أن حاولت التسلل في صبيحة ذلك اليوم من غرفتيها اللتين تؤويانها وصغارها على سطح المنزل الكبير، مرت بالمنزل الكبيرعلى أطراف أصابعها ثم نزلت الى أرضية الدار، تتخفى مما سيحل بها أوتحاول ان تؤجل عقوبتها يوماً آخرجديداً، على وقوفها في وجه العائلة، تجاهلت سلمى التي كانت تنشر الغسيل ولم تلقي بالاً لوفاء وهي تحلب البقرات، اضطرت للتوقف على صوت عمتها تناولها وعاءً مليئاً بالكوسا، تتحدث إليها بود مفتعل :
- كلهن مشغولات، أرجو أن تجدي وقتاً في المركز لإعداد وجبة الغداء، حتى غدير ستخرج معي ومع عمك لشراء ملابس العيد لأولادك لا تخافي سنأخذ رزان معنا .
-أولادي!!
تدهشها قدرات عمتها الناعمة على الإنتقام .....
عشر كوسيات حفرتها للآن خلال وجود ثلاثة مرضى، وتبقى لها تسعون، ست كوسيات أخريات بعد فراغ العيادة لمدة عشر دقائق، وتبقى لها أربع وثمانون.. ووجود الحجة ام عبد التواب اخرها ساعة كاملة عن المزيد، تسع كوسيات أخريات قبل وصول الطبيب المناوب، وتبقى لها خمس وسبعون، ثلاث كوسيات نقرتها سراً والحاج ابو عمر يشكو للطبيب حالته وحيداً في الداخل، وبقي اثنتان وسبعون خبأتهم بعيداً عن عين الطبيب حتى غادر، أقفلت باب العيادة في وجه المرضى في الساعة المتبقية، بدأ المطر بالهطول غزيرا وغدت هي بنقر الكوسا تسابق ريحاً هوجاء عاصفة، خرجت مسرعة تشتكي مداهمة الوقت، فداهمتها صخرة صلدة أعماها الجو الغائم في روحها عن رؤيتها، أوقعتها في الوحل على وجهها ومرغتها بالطين، لعنت الساعة التي تزوجت فيها من " كفر سوسه "، وهي تلملم بقايا كوساها المتكسرة، عوى عليها كلب بري، رمته ببعضها تشتمه.. وانفجرت بالبكاء، ثم نظرت الى السماء، ثم عادت وألحت دموعها النظر، تقسم أنها لم تعد تريد ثلاجة..!! كل الذي تتمناه اللحظة أن تمطر السماء حبة كوسا واحدة..حبة واحدة بقياس 45، تبطش بطشاً في البطون كبطش البساطير .. بقيت جالسة على الصخرة، لم تنزل الكوسا من السماء!! وانتقعت هي بالماء ثم انفجرت فجأة بضحك هستيري وهي تجفف دموعها، ربما تريد السماء ان ترد المكيدة الى عقر دارها..حثت الخطى، وضعت الكوسا المحشوة بالطين على الطاولة، صعدت الى بيتها، القت بنفسها على فراشها تتدثر من قشعريرة ألمت بها، علت معمعة في المنزل الكبير بحجم الأفواه الجائعة، أقتنعت أخيراً أن الإحتلال هو سبب كل مشاكلها، لكنها ما زالت تعتقد انه احتلال من نوع آخر لا دخل لإسرائيل فيه ولا يمكن له ان يزال !! ولن تجتمع لأجله الجامعة العربية !! لذلك قررت أن تنام !!