-

صديق الرصيف ..

صديق الرصيف ..

سكبت حزنها كله في عينيه.. ثم غادرت المكان..

اعتلت الطريق الوعر الصاعد من قلبها الساكن في العصر الحجري وتفرعت منه..الى عهود جديدة.. توصل الى الطريق المزدحم بالإلكترونيات والآلة.

وصلت زمان مجدها بكعبها الطامح الى ملامسة أشعة الشمس، وتقمصت الحنان وأصيبت بحالة من هذيان الكلمات الرقيقة المفتعلة كروتين على جدول اعمالها، وامتشقت أدوات الطبيب الحاذق قلباً دافئاً تضعه على كفها.. وتنفخ عليه في كل جناح تتفقد به مرضاها.. وترسل منه نسائمها.

كان يعشقها على امتداد العمر الموصول من قلبها المتحجر حتى نهايات كل مساء مرّ من طفولته الموجوعة القابعة على نافذة الحرمان التي كان يرقبها منها، وهي تصطحب العز والجاه بشخصنة حياتها حول محور نجاحاتها وعملياتها الجراحية التي قد اشتهرت بها..لتتركه كل يوم وحيداً يفتح ثلاجة ذاك الفؤاد الذي بين ضلوعه، ليجده  دوماً فارغاً خاوياً الا من صقيع وزمهرير

.

وأصبح كل شيء يخصها مسروق من خصوصيته معها.. حضنها..قبلاتها..أدنى التفاتة منها اليه.. حكايات ما قبل النضوج.. سمر ما بعد الطفولة.. حلاوة طبيخها.. وملوحة حلوياتها التي صنعتها بعجز أمومتها.

كانت ذاتيتها تغالب كل شيء في حياتها.. فلا يستفيق قلبها من ليلة غرام بعملية جراحية ناجحة تزيد من ألق شهرتها حتى ينام في أخرى.. وهو لا ينام الا في حضن البرد.. يغمر ليالي الخوف التي عانى منها صبياً ركام هائل من صقيع الثلج.. هكذا امتلأ عمره بالزكام والجذام من لحظة بكائية مولده الخارج من رحم ضاق عليه بالرحمة الى رحم الكتروني يصور الحياة آلة أوسع.

غدا يغار عليها من كل شيء..

من فستانها الذي ترتديه على خاصرة السنين العجاف لمراهقته.

من مرآتها التي تصورها كأحلى " سنواويت " فقدت من حياتها العيش الا في غابة مع أقزام المفاهيم وتشوهات المعاني.

ومن هاتفها الجوال الذي يلتقط كل ذبذبات الأمومة المستدامة العابرة للقارات العجاف والسمان.. وما استطاع أن يلتقط اصفرار قلبه الذي كتفت له يداه وذبذباته الغائرة على سريره العسكري شاهداًعياناً على بعد منفاه عنها.

من خواتمها المرصعة التي جنتها بثمن بيعه رقيقاً للفلبينية حيناً وللأندونيسية حيناآخر.. وللسريلانكية سيرة ذاتية تدمغ بها جبينه.. أعواماً تتلوها اعوام من عمره بناء لفصاحته..وإصحاحاً للسانه..وتدعيماً منشوداً لبرجوازيته أمام أهل الجيرة وتأصيلاً لثقافة ( الفبوــ سيلاني ــ أندروماتيكي)(F.S.N ) العالمية المرموقة..

وغدا يغار عليها..

من سيارتها المتعجرفة التي ترتمي في أحضانها في كل حين.. ويرتمي هوعلى صلف حديدية قلبها مستجدياً عطف بقاءها معه.. اصفرار الليمونة في وجنتيه.. وملوحة الدمع في مقلتيه.. ولا حياة لمن تنادي الا من نداءات الجارية الأم أو الدكتاتورة الجارية:

              

              " فوت حبيبي فوت.. خلص..ما في ماما..ماما راحت سوغول "

 

وغدا يغار عليها..

من سلسلة مفاتيحها التي توحي لها بنشوة الإسترجال.. عالماً آخر تحارب فيه الأنوثة الذكورة باعتبارها الأمل المنشود للوصول للكمال..

ومن حقائب العطاء والتضحية.. التي تنثر منها عبقاً في كل مكان.. ولم يشتم هو منها الا رذاذ العطر الذاهب معها الى حيث ذاك الآخر الموجوع على سرير في بيته.. وعنوان ليس في حيِّه..

كانت تبني مستقبلها.. وتهدم بمعول إنسانيته المنقوصة من وجودها مستقبله.. وينعكس اهمالها على ضياعه.. في مقاطع البلوتوث.. وأورقة البالتوك.

وكان هو بوحدته يصادق الطرقات.. وتتجذر بذور شخصيته في تربة الإنطواء.. ويكبر بالعزلة.. وتنمو عضلاته بالقسوة.. تزيدها ثرثراتها معه في أحايين متقطعة عن أعمالها وبعضاً من أوجاع المستشفيات.. وتجالس أوجاعه الرصيف تثرثر عنها وتشتكي جفاءها.. معادلة كيمياية حامضية المذاق تلك التي نشأ عليها.

 أنجبته رغماً عن أنفه.. فلم يكن بينه وبينها عقد، ولا احتواء لأي شرط أو إيجاب وقبول.. أو حتى فرصة للرفض.. فسَّوت من خلاله إنفعالاً نفسياً يخالج أنوثتها فأصبحت أماً.. وعكرت حقيقة فطرية علمية ثابتة تسمى نمواً صحياً للطفولة فأصبح صديقاً للرصيف..

وأصبح فؤاده فارغاً كأم موسى.. فألقى به في اليم.. وأصبح فؤادها مكتظاً بالعلو مرصعاً بمديح المجتمع.. وشاشات المجد..فاعتلت به عرش فرعون..

خيالات نساء أقرب ما يكنَّ الى اشباه رجال، في مزارع تطرد عن خضرة الزرع أشعة الشمس..وتظلل الأرض من حبات المطر..فقر في القلوب.. وقفر في الحصاد.

أن تجعل يدك مغلولة الى عنقك..لتخنق ببخلك طفلك.. او أن تصبح الأنا هي محط رسالتك وجوهرة مبادئك.. أو أن يصبح عهد الأمومة معبد اسمه الذات.

أن تنجب ولداً وبنتاً وماركة عالمية وأرباع طنجرة في اخماس عاطفة.. وشعر مقفل على الرأس برباط نفاذ الوقت..فلن تستطيع أكثر النساء حنكة وذكاءً وتنظيماً ان تدور في دوائر الحياة كلها الا المكابرات.

أو أن يصبح عهد الأمومة رسالة مفادها كيف يمكن لك أن تجني المال إستقلالاً من عبودية رجل وسجودا لحركة الآلة، ليزداد عدد الماركات التي يتعارف عليها ابناؤك ويلبسونها "تشيرتا" وبنطالا من " المذر كير"و "تشيكو"أو "آدمز" أو عطراً شبابياً من " كالفن كلن" أو حتى حذاءالنايك الرياضي.. أو احتفالاً ممجوجاً بمعدل ضارب بكل معاني القلب.. معادلات رياضية مجردة تساوي فيزياء مقطوعة الأنوار في حنايا أفئدة الأجيال القادمة.

كان نوره قد أنطفىء..

مرّ على تاريخه.. ووقف على رصيفه صديقه.. تفقد احافيره التي نقشها بدموع الوحدة والشوق اليها.. عبر عقود من عمره قد مضت وانقضت.. كل احفورة حكاية.. وكل حكاية بعث لألم.. وكل ألم لغة هيروغليفية جديدة.. تحتاج للباحثين والمنقبين عن ما انقرض من مفاهيم.. وأعتم من قيم.

خرج بها على نفس الطريق الوعر الصاعد هذه المرة من قلبه المتحجر هو الى مأواها الأخير في بيت علية القوم من العجزة والمسنين.

 فلم يكن بينهما عقد ولا إحتواء لأي شرط.. او ايجاب وقبول.. أو حتى فرصة للرفض..

مدت يدها اليه.. أدار ظهره وانقرض هو ايضاً من حياتها..

إمتد اليها نفس صوت طفولته :

 

                   " فوت حبيبي فوت.. خلص ما في بابا.. بابا راح سوغول "

وغادرها..!!

 

 

ملاحظة : سوغول بالسيرلانكي تعني شغل بالعربي الفصيح   

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نشرت هذه القصة  في مجلة الدوحة

السنة الثانيةــ العدد السادس عشر ــ شباط 2009

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تاريخ الاضافة : 09/06/2010 -- 10:39 AM
عدد المشاهدات :
2882
الإسم بالكامل :
البريد الإلكتروني :
التعليق :
 
   
أضف تعليقك
 
 

بحث
 
تم التطوير والتصميم من قبل أعالي التقنية تصميم مواقع جرافيكس أعالي للاعلان تصميم، مجلات، أعلان، تسويق، تصميم شعارات
© جميع الحقوق محفوظة باب الورد 2010
الرئيسية إتصل بنا أضف الى المفضلة